امتحانات الثانوية العامة.. والإعلام
بقلم د/ عبد الله هلال
المصريون 4-7-2010
الوسط 4-7-2010
هذا المقال ليس دفاعا عن وزير التربية والتعليم.. فالعبد لله آخر من يدافع عنه، ليس لأنه ابن زكي بدر؛ فلا تذر واذرة وذر أخرى، ولكن لأنه شخص تم تصنيعه خصيصا- دون داع، وبطريقة عجيبة- ليصبح وزيرا، بعد أن أُهبـِط (بالبراشوت) على جامعة عريقة- لم يكن أحد أساتذتها- ليفرض عليها رئيسا. ولكن ما علينا.. فهو الآن المسئول الأول عن تعليم أبنائنا، وهذه مهمة خطيرة يجب أن نعاونه فيها إن أحسن وأن نعارضه إن أساء. وقد طـُرحت مؤخرا- بمناسبة امتحانات الثانوية العامة- قضية علاقة وسائل الإعلام بالوزارة.. ولا شك أن الإعلام- كسلطة رقابية- مهم ويجب الحرص على استقلاله وتمكين الإعلاميين من أداء واجبهم. ولكن ليسمح لي كل من شوشروا على عملية الامتحانات بالاختلاف الشديد معهم.. إذ ما دخل وسائل الإعلام بالامتحانات؟!. المفروض أن الامتحان مجرد اختبار لقياس قدرات الطالب وليس معركة بين أولياء الأمور ووسائل الإعلام وبين الوزارة. ولا شك أن هذا الضغط الإعلامي والأسري يؤثر سلبا على الطلاب أنفسهم.. فنجد صحفا تنشر صور طالبات تبكين، وأخرى تخصص تقريرا يوميا عن صعوبة وسهولة الأسئلة، ونجد إرهابا إعلاميا على واضعي الأسئلة!، ما هذا الهراء وسوء التقدير؟!. إن مسألة صعوبة وسهولة الأسئلة مسألة نسبية.. ومادام الامتحان عاما على الجميع فلا معنى لهذا التدخل السافر في أمر يجب أن يتم في سرية وهدوء. وليت هؤلاء ينتبهون إلى الأمر الأهم وهو الحرص على توفير الشفافية والعدالة والمساواة باللجان كافة بمنع الغش ومنح جميع الطلاب فرصا متساوية لقياس المهارات والتحصيل.. ولتأت الأسئلة في هذه الحالة للجميع؛ صعبة أو سهلة ، فلن يكون هناك ظلم لأحد. ألا تتفقون معي على أن المطالبة بأسئلة "سهلة" هي غش مقنع؟.
ولعل هذا الهراء الغريب (بالإضافة إلى ظاهرة انتشار الغش) يطرح قضية مهمة: لماذا تغير الإنسان المصري وصار هدف أولياء الأمور (تساندهم- بقوة- وسائل الإعلام للأسف) هو مجرد عبور أولادهم للامتحان "بتفوق" بصرف النظر عن مستوى التحصيل بالسلم التعليمي؟... لقد تربينا في هذا الوطن نفسه على قيم أصيلة أساسها أن "الغش حرام"، ولم نكن نشهد في الماضي القريب هذا الاهتمام الفائق بالامتحانات "فقط" دون أدنى اهتمام بالعملية التعليمية نفسها. لم نكن نشهد هذا التكالب على لجان الامتحانات لمحاولة مساعدة الأولاد بالغش أو بشراء الأسئلة.. كانت حوادث الغش ومساعدة أولاد بعض قيادات التعليم المحليين نادرة وممقوتة ومستهجنة، وكان الطالب الذي يحظى بالمساعدة أو الغش يشعر بالخزي والعار أمام زملائه. كان هناك شعور وفهم عام بأن الغش لن يفيد؛ لأن الطالب الغشاش الذي لم يتعلم جيدا لن يستطيع المواصلة بالمراحل التالية.. وكان أولياء الأمور يتفهمون ذلك ويريحون أنفسهم من عناء اللهث وراء الامتحانات ولجانها، وكانوا بالتالي يهتمون بالعملية التعليمية نفسها، ونشأت فصول (التقوية) لمساعدة الطلاب ضعاف التحصيل، وظهرت الدروس الخصوصية من أجلهم لأنه لا حل سوى التعلـُّم الحقيقي ورفع مستوى الطالب. وكانت قصص القِلة القليلة من الطلاب الذين حصلوا- بنفوذ آبائهم- على "الدرجات العلا" في الثانوية العامة ثم فشلوا في مواصلة تعليمهم بكليات الطب وغيرها دائما حاضرة.
لا شك أن انتقال الفساد التعليمي إلى الجامعات أيضا (حكومية وخاصة) هو الذي يشجع أولياء الأمور على محاولة مساعدة أولادهم (بالمطالبة بامتحانات "سهلة" أو بالغش) لعبور امتحان الثانوية العامة.. فالطالب الغشاش بالثانوي يمكن أن يكون غشاشا بالجامعة، ليتخرج ويحمل شهادة تؤهله "بجهله" لقتل المرضى الذين يوقعهم حظهم العاثر في عيادته، أو تدمير المنشآت التي يصممها أو يشرف على بنائها، أو تسميم الناس بالمياه الملوثة ...الخ. وأصحاب النفوذ والمال الذين يستطيعون شراء الامتحانات بالثانوي هم الذين يستطيعون فعل الشيء نفسه بالجامعة، وهم الذين يستطيعون تدبير وظائف لأولادهم الجاهلين فور التخرج، رغم البطالة السائدة.. فلماذا لا ينتشر الغش وشراء الذمم؟!. لابد إذاً من إصلاح الجامعة أولا.. ولكن هل الجامعات المصرية فاسدة هي الأخرى وتحتاج إلى الإصلاح؟، للأسف نعم.. وهذا مثال بسيط يمكن أن يدلنا على موضع الداء.. لأن الفساد (فوق، فوق).. في الرأس، كما سبق أن أوضحنا كثيرا!.
في دولة خليجية؛ تعاقدت "أستاذة" مصرية بجامعة إقليمية كبيرة لتدريس أحد التخصصات الأساسية المهمة.. وكانت المفاجأة المحزنة أن هذه الأستاذة لا تفقه شيئا في ذلك التخصص لدرجة أن الطالبات الخليجيات المهذبات اللاتي يرضَيْن بأقل القليل من العلم- إن أحسن الأستاذ تقديمه- رفضنها وطالبن بتغييرها. وعندما تدخل الزملاء لحل المشكلة، بتشجيع من عميد الكلية الذي شعر بالحرج لأنه كان رئيس اللجنة التي تعاقدت معها، اقترح البعض أن تختار المقرر الذي يروق لها وتستطيع أن تقنع به الطالبات (وليكن تخصصها الدقيق).. ولكنها فشلت للأسف في تقديم أي مقرر بحجة أنها "مقررات صعبة"، واضطر العميد لإنهاء عقدها. وقد تسببت هذه الواقعة في فتح حوار محرج للمصريين عن مستوى الأساتذة وعن أزمة التعليم في مصر، وكانت فرصة للبعض من غير المصريين للاصطياد في الماء العكر لدرجة أن لجنة التعاقدات للعام التالي- التي كانت تبدأ بمصر عادة- وضعت مصر في ذيل القائمة بعد سوريا والأردن والسودان وتونس. وبالطبع احتدم النقاش بين المصريين عن اللجان العلمية، وكيف تسمح بترقية من هم دون المستوى، وعرفنا أن زوج هذه الأستاذة عضو بإحدى اللجان العلمية؛ فبَطـُل العجب!... وذُكِرتْ في المناقشة قصص كثيرة عن التربيطات والهدايا والرِّشا؛ لدرجة أن أحد الزملاء أقسم أن الدرجات تمنح في جامعته بـ"حلل المحشي". لابد إذاً من البدء بالجامعة.. لابد من استئصال كل صور وأشكال الغش والمجاملات والفساد عموما، لكي نصلح العملية التعليمية كلها. أما وزير التربية والتعليم فكان عليه أن يصلح وزارته أولا بإعادة العملية التعليمية إلى المدارس بدلا من البيوت، وإعادة الهيبة إلى المعلم، وإعادة الكتاب المدرسي "المحترم" إلى الطالب ومنع الكتب الخارجية، وإعادة مفهوم التعلم من أجل اكتساب المعرفة وليس لعبور الامتحان.. لو فعل ذلك قبل التشدد في الامتحانات لأراح نفسه من هذه الهوجة الامتحانية التي لا داعي لها، ولقدم خدمة جليلة للوطن.
ولعل هذا الهراء الغريب (بالإضافة إلى ظاهرة انتشار الغش) يطرح قضية مهمة: لماذا تغير الإنسان المصري وصار هدف أولياء الأمور (تساندهم- بقوة- وسائل الإعلام للأسف) هو مجرد عبور أولادهم للامتحان "بتفوق" بصرف النظر عن مستوى التحصيل بالسلم التعليمي؟... لقد تربينا في هذا الوطن نفسه على قيم أصيلة أساسها أن "الغش حرام"، ولم نكن نشهد في الماضي القريب هذا الاهتمام الفائق بالامتحانات "فقط" دون أدنى اهتمام بالعملية التعليمية نفسها. لم نكن نشهد هذا التكالب على لجان الامتحانات لمحاولة مساعدة الأولاد بالغش أو بشراء الأسئلة.. كانت حوادث الغش ومساعدة أولاد بعض قيادات التعليم المحليين نادرة وممقوتة ومستهجنة، وكان الطالب الذي يحظى بالمساعدة أو الغش يشعر بالخزي والعار أمام زملائه. كان هناك شعور وفهم عام بأن الغش لن يفيد؛ لأن الطالب الغشاش الذي لم يتعلم جيدا لن يستطيع المواصلة بالمراحل التالية.. وكان أولياء الأمور يتفهمون ذلك ويريحون أنفسهم من عناء اللهث وراء الامتحانات ولجانها، وكانوا بالتالي يهتمون بالعملية التعليمية نفسها، ونشأت فصول (التقوية) لمساعدة الطلاب ضعاف التحصيل، وظهرت الدروس الخصوصية من أجلهم لأنه لا حل سوى التعلـُّم الحقيقي ورفع مستوى الطالب. وكانت قصص القِلة القليلة من الطلاب الذين حصلوا- بنفوذ آبائهم- على "الدرجات العلا" في الثانوية العامة ثم فشلوا في مواصلة تعليمهم بكليات الطب وغيرها دائما حاضرة.
لا شك أن انتقال الفساد التعليمي إلى الجامعات أيضا (حكومية وخاصة) هو الذي يشجع أولياء الأمور على محاولة مساعدة أولادهم (بالمطالبة بامتحانات "سهلة" أو بالغش) لعبور امتحان الثانوية العامة.. فالطالب الغشاش بالثانوي يمكن أن يكون غشاشا بالجامعة، ليتخرج ويحمل شهادة تؤهله "بجهله" لقتل المرضى الذين يوقعهم حظهم العاثر في عيادته، أو تدمير المنشآت التي يصممها أو يشرف على بنائها، أو تسميم الناس بالمياه الملوثة ...الخ. وأصحاب النفوذ والمال الذين يستطيعون شراء الامتحانات بالثانوي هم الذين يستطيعون فعل الشيء نفسه بالجامعة، وهم الذين يستطيعون تدبير وظائف لأولادهم الجاهلين فور التخرج، رغم البطالة السائدة.. فلماذا لا ينتشر الغش وشراء الذمم؟!. لابد إذاً من إصلاح الجامعة أولا.. ولكن هل الجامعات المصرية فاسدة هي الأخرى وتحتاج إلى الإصلاح؟، للأسف نعم.. وهذا مثال بسيط يمكن أن يدلنا على موضع الداء.. لأن الفساد (فوق، فوق).. في الرأس، كما سبق أن أوضحنا كثيرا!.
في دولة خليجية؛ تعاقدت "أستاذة" مصرية بجامعة إقليمية كبيرة لتدريس أحد التخصصات الأساسية المهمة.. وكانت المفاجأة المحزنة أن هذه الأستاذة لا تفقه شيئا في ذلك التخصص لدرجة أن الطالبات الخليجيات المهذبات اللاتي يرضَيْن بأقل القليل من العلم- إن أحسن الأستاذ تقديمه- رفضنها وطالبن بتغييرها. وعندما تدخل الزملاء لحل المشكلة، بتشجيع من عميد الكلية الذي شعر بالحرج لأنه كان رئيس اللجنة التي تعاقدت معها، اقترح البعض أن تختار المقرر الذي يروق لها وتستطيع أن تقنع به الطالبات (وليكن تخصصها الدقيق).. ولكنها فشلت للأسف في تقديم أي مقرر بحجة أنها "مقررات صعبة"، واضطر العميد لإنهاء عقدها. وقد تسببت هذه الواقعة في فتح حوار محرج للمصريين عن مستوى الأساتذة وعن أزمة التعليم في مصر، وكانت فرصة للبعض من غير المصريين للاصطياد في الماء العكر لدرجة أن لجنة التعاقدات للعام التالي- التي كانت تبدأ بمصر عادة- وضعت مصر في ذيل القائمة بعد سوريا والأردن والسودان وتونس. وبالطبع احتدم النقاش بين المصريين عن اللجان العلمية، وكيف تسمح بترقية من هم دون المستوى، وعرفنا أن زوج هذه الأستاذة عضو بإحدى اللجان العلمية؛ فبَطـُل العجب!... وذُكِرتْ في المناقشة قصص كثيرة عن التربيطات والهدايا والرِّشا؛ لدرجة أن أحد الزملاء أقسم أن الدرجات تمنح في جامعته بـ"حلل المحشي". لابد إذاً من البدء بالجامعة.. لابد من استئصال كل صور وأشكال الغش والمجاملات والفساد عموما، لكي نصلح العملية التعليمية كلها. أما وزير التربية والتعليم فكان عليه أن يصلح وزارته أولا بإعادة العملية التعليمية إلى المدارس بدلا من البيوت، وإعادة الهيبة إلى المعلم، وإعادة الكتاب المدرسي "المحترم" إلى الطالب ومنع الكتب الخارجية، وإعادة مفهوم التعلم من أجل اكتساب المعرفة وليس لعبور الامتحان.. لو فعل ذلك قبل التشدد في الامتحانات لأراح نفسه من هذه الهوجة الامتحانية التي لا داعي لها، ولقدم خدمة جليلة للوطن.