ترويج السلع المغشوشة.. بالوسائل الحديثة!
بقلم د. عبد الله هلال
بقلم د. عبد الله هلال
المصريون 24-10-2010
أدت ثورة المعلومات والاتصالات إلى تغيير حياة الإنسان إلى الأفضل.. وتغيرت الدنيا تغيرا كبيرا، بفضل الاكتشافات العلمية الحديثة التي استثمرتها البشرية في تحسين ظروف حياتها، كما وكيفا. ولم يقتصر هذا التغير على انتشار قيم الحرية وحقوق الإنسان والانتخابات الحرة وغيرها، ولكن الأهم أن أنظمة الحكم الرشيدة التي انتشرت في أركان المعمورة استفادت من هذه الثورة لتعظيم عمليات رقابة وتوكيد الجودة خدمة لمواطنيها، وبدأنا نرى تطورا كبيرا في جودة السلع المختلفة على الرغم من الاتجاه المحموم لزيادة الإنتاج، بالتوازي مع الزيادة السكانية، لكي يلبي الطلب المتزايد على السلع الجيدة والفاخرة. وهذا بالطبع لم ولن يمنع عمليات الغش والتقليد واختلاس حقوق الملكية وسرقة حقوق الغير.. ولكن ثورة المعلومات والاتصالات أفادت أيضا في تحسين عمليات الرقابة وحماية المستهلكين من عصابات الغشاشين. وهذا الأمر المهم يحتاج في المقام الأول إلى دولة يقظة تحمي مواطنيها.. دولة بها حكومة رشيدة واعية فاهمة أمينة تدرك خطورة ترك الحبل على الغارب لعصابات الغش والتدليس، دولة تحرص على وضع مواصفات دقيقة لكل شيء، وتقوي أجهزة الرقابة لديها وتمنع دخول أو تداول السلع غير المطابقة للمواصفات، دولة تدعم وتشجع الرقابة الشعبية بتسهيل إرجاع السلع المغشوشة إلى أصحابها الغشاشين، سواء كانوا مستوردين أو منتجين محليين، وإنزال العقاب بهم. وغني عن البيان أن المصدرين للسلع المختلفة يَدرُسون أحوال الدول المستوردة وقوة أو ضعف أجهزة الرقابة بها، وهل يمكن رشوتها أم أنها عصية على الرشوة: فإذا كانت دولة خربة تباع الذمم فيها وتُشترى، أو دولة عديمة الرقابة؛ صدّرت إليها السلع الرديئة، وإن كانت دولة يقظة وبها حكومة رشيدة وأجهزة رقابية نزيهة صدّرت إليها أفضل السلع. وكذلك الحال بالنسبة للمنتجين المحليين؛ فإذا كانت السلع المنتجة توزع بالأسواق أيا كان مستوى جودتها، فما الذي يمنع منعدمي الضمير من الغش وسرقة المواطنين المساكين؟.
ترى ما هو موقع مصرنا الغالية بين الدول المختلفة إذا ما نظرنا إلى الواقع الحالي أو أجرينا مقارنة مع دول أخرى؟.. هل لدينا أجهزة رقابية مستقلة تقوم بالواجب وتحمي المواطنين من الغش وتمنع تداول السلع غير المطابقة للمواصفات؟.. هل استفدنا من ثورة المعلومات والاتصالات لتعظيم دور الرقابة وتحسين ظروف وإمكانات الأجهزة الرقابية؟.. هل لدينا رقابة شعبية فعالة؟. الجواب للأسف الشديد لا يسُرّ.. فالسوق المصرية مفتوحة على مصراعيها لكل من لديه سلعة رديئة ويبحث عن مكان (أو مكَبّ) للتخلص منها!. والرقابة الشعبية متعثرة، إما لأن الدولة لا تحمي المستهلك وتمكنه من إرجاع السلع الرديئة لأصحابها، وإما لأن المستهلك لا يستطيع أن يعرف مصدر هذه السلعة بسبب القصور الحكومي الخطير في عمليات الرقابة والتفتيش وضبط السلع مجهولة المصدر. والأخطر من ذلك أن الاستفادة من ثورة المعلومات والاتصالات جاءت في بلادنا المسكينة لتدعيم عمليات الغش وليس العكس!. كيف ذلك؟؛ في الماضي القريب كان اللصوص والغشاشون يعملون في الظلام وفي الخفاء بعيدا عن الأعين، كما كانوا يوزعون سلعهم الرديئة في جنح الظلام دون دعاية، وكنا نطلق على هذه السلع المغشوشة التي لم تُنتج في مكان محترم أو معتمد (سلع بير السلم).. أما الآن فقد استفاد هؤلاء اللصوص من الإمكانات الحديثة لترويج سلعهم المضروبة والاختفاء بعيدا عن الأعين بحيث يستحيل الوصول إليهم. وفي الواقعة الآتية مثال حي- حدث بالفعل- يثبت أن عمليات الغش وسرقة المستهلك تطورت واستفادت من الإمكانات الحديثة على حساب الشعب المسكين.. في غياب تام لأجهزة الرقابة الحكومية.
اتصل بي صديق عربي راجيا مساعدته في الحصول على نوع من الكريم (المستخلص من دهن أحد أنواع الطيور!) يباع في مصر ويعلن عنه في إحدى القنوات الفضائية.. سألته عن الاسم التجاري وعن الجهة المنتِجة لكي أتمكن من الوصول إليه، فقال إنه لا يعرف شيئا سوى رقم الهاتف الجوال الذي يذاع مع الإعلان. سألت عن هذا المنتج الغريب بالصيدليات فلم أجد أحدا سمع عنه، سوى في الإعلانات!. لم أجد مفرا من الاتصال بالهاتف الجوال الذي يذاع رقمه مع الإعلان، وسألت السيدة التي أجابت على المكالمة عن العنوان الذي يمكن أن أذهب إليه لشراء هذا المنتج لأفاجأ برد غريب: ليس لنا عنوان والوسيلة الوحيدة للحصول على منتجاتنا هي أن تترك لنا عنوانك ونحن نقوم بالتوصيل لك في بيتك!. ساورني الشك في أن يكون هذا المنتج واحدا من منتجات "بير السلم" وشعرت بأنه لا يجوز أن أورط صديقي (المغرر به تلفازيا) في سلعة من الواضح جدا أنها مغشوشة أو غير حقيقية.. إذ لا يوجد عنوان أو رقم هاتف أرضي، أو أي شيء يدل على أصحاب هذا المنتج "السري"، فقررت بحاستي الصحفية أن أطلب منها إرسال عبوة واحدة (ثمنها 99 جنيها) على عنوان بيتي لأرى ما الحكاية. وبالفعل جاء المندوب وحاول أن يستفيد هو الآخر بابتزاز مقابل للتوصيل (30 جنيها)!، فقلت له اصبر لكي أرى المنتج أولا، فتغير وجهه محاولا إلهائي بتاريخ الصلاحية.. ولكنني أمسكت بالعلبة وتفحصتها لأجد منتجا رديئا سيء المظهر وغريب من جميع الوجوه، والمهم أنني بحثت عن الجهة المنتجة فلم أجد، وبحثت عن رقم أو تاريخ لموافقة وزارة الصحة أو غيرها فلم أجد، بحثت عن أي عنوان أو رقم هاتف فلم أجد، بحثت عن التركيب أو المكونات فلم أجد شيئا. تزايد القلق على وجه المندوب وفوجئت به يخطف العلبة- جسم الجريمة- ويفر هاربا!. والشيء المحزن أن هذه الطريقة الإعلانية ليست الوسيلة الوحيدة للغش، فالسوق المصرية الآن مليئة بالسلع الرديئة التي لا يملك المواطن وسيلة للتأكد من صلاحيتها.. فنأكل ونشرب ونستعمل الكثير مما يضر بالصحة دون أن ندري، ولا يملك من يكتشف أنه تعرض للغش والابتزاز سوى (الدعاء على الحكومة!) لأنه لا يجد حتى من يشكو إليه، ورغم ذلك يظل استخدام القنوات الفضائية لترويج هذه السلع هو الأكثر ضررا وتحديا لسلطة الحكومة وللمجتمع.
والسؤال المحيّر الذي يدين الحكومة ويقلق المواطن البريء هو كيف يسمح للقنوات الفضائية بالإعلان عن سلع غير حقيقية أو مجهولة المصدر والعنوان؟.. وأين الأجهزة الرقابية؟.. ولماذا لم تفرض هذه الأجهزة أو الوزارة المختصة على القنوات التي تذيع تلك الإعلانات توضيح الجهة المنتجة أو على الأقل الحصول على موافقة الوزارة المختصة على إذاعة الإعلان. إن وسائل الإعلام لها وقعها على المشاهدين، والناس- للأسف- يعتبرون أن مجرد إذاعة الإعلان دليل على أن الدولة تراقب هذه المنتجات مما يمنحهم ثقة غير مبررة في كل ما يذاع. وحل هذه المشكلة لا يكون بالطبع بقرارات غشيمة تؤدي إلى وقف بث هذه القنوات، ولكن المطلوب هو وضع آلية أو نظام للمراجعة والاطمئنان إلى أن هذه الإعلانات لسلع معروفة ومطابقة للمواصفات، فليس من حق أية قناة أن تذيع الإعلانات دون مراجعة لمحتواها وصدقيتها.. وتكفينا اللغة الركيكة والرديئة التي تقدم بها الإعلانات، وما يصاحبها من حركات مبتذلة ولقطات لا تليق بمجتمع متحضر أو متدين. والواجب على الحكومة أن تسابق الزمن وتستفيد من الإمكانات العلمية والتقنية الحديثة لتعظيم دور الرقابة وفرض هيبة الدولة ومؤسساتها.. لا أن تترك هذه الإمكانات للغشاشين وبائعي الوهم. أفيقوا يرحمكم الله.
abdallah_helal@hotmail.com
http://abdallahhelal.blogspot.com
ترى ما هو موقع مصرنا الغالية بين الدول المختلفة إذا ما نظرنا إلى الواقع الحالي أو أجرينا مقارنة مع دول أخرى؟.. هل لدينا أجهزة رقابية مستقلة تقوم بالواجب وتحمي المواطنين من الغش وتمنع تداول السلع غير المطابقة للمواصفات؟.. هل استفدنا من ثورة المعلومات والاتصالات لتعظيم دور الرقابة وتحسين ظروف وإمكانات الأجهزة الرقابية؟.. هل لدينا رقابة شعبية فعالة؟. الجواب للأسف الشديد لا يسُرّ.. فالسوق المصرية مفتوحة على مصراعيها لكل من لديه سلعة رديئة ويبحث عن مكان (أو مكَبّ) للتخلص منها!. والرقابة الشعبية متعثرة، إما لأن الدولة لا تحمي المستهلك وتمكنه من إرجاع السلع الرديئة لأصحابها، وإما لأن المستهلك لا يستطيع أن يعرف مصدر هذه السلعة بسبب القصور الحكومي الخطير في عمليات الرقابة والتفتيش وضبط السلع مجهولة المصدر. والأخطر من ذلك أن الاستفادة من ثورة المعلومات والاتصالات جاءت في بلادنا المسكينة لتدعيم عمليات الغش وليس العكس!. كيف ذلك؟؛ في الماضي القريب كان اللصوص والغشاشون يعملون في الظلام وفي الخفاء بعيدا عن الأعين، كما كانوا يوزعون سلعهم الرديئة في جنح الظلام دون دعاية، وكنا نطلق على هذه السلع المغشوشة التي لم تُنتج في مكان محترم أو معتمد (سلع بير السلم).. أما الآن فقد استفاد هؤلاء اللصوص من الإمكانات الحديثة لترويج سلعهم المضروبة والاختفاء بعيدا عن الأعين بحيث يستحيل الوصول إليهم. وفي الواقعة الآتية مثال حي- حدث بالفعل- يثبت أن عمليات الغش وسرقة المستهلك تطورت واستفادت من الإمكانات الحديثة على حساب الشعب المسكين.. في غياب تام لأجهزة الرقابة الحكومية.
اتصل بي صديق عربي راجيا مساعدته في الحصول على نوع من الكريم (المستخلص من دهن أحد أنواع الطيور!) يباع في مصر ويعلن عنه في إحدى القنوات الفضائية.. سألته عن الاسم التجاري وعن الجهة المنتِجة لكي أتمكن من الوصول إليه، فقال إنه لا يعرف شيئا سوى رقم الهاتف الجوال الذي يذاع مع الإعلان. سألت عن هذا المنتج الغريب بالصيدليات فلم أجد أحدا سمع عنه، سوى في الإعلانات!. لم أجد مفرا من الاتصال بالهاتف الجوال الذي يذاع رقمه مع الإعلان، وسألت السيدة التي أجابت على المكالمة عن العنوان الذي يمكن أن أذهب إليه لشراء هذا المنتج لأفاجأ برد غريب: ليس لنا عنوان والوسيلة الوحيدة للحصول على منتجاتنا هي أن تترك لنا عنوانك ونحن نقوم بالتوصيل لك في بيتك!. ساورني الشك في أن يكون هذا المنتج واحدا من منتجات "بير السلم" وشعرت بأنه لا يجوز أن أورط صديقي (المغرر به تلفازيا) في سلعة من الواضح جدا أنها مغشوشة أو غير حقيقية.. إذ لا يوجد عنوان أو رقم هاتف أرضي، أو أي شيء يدل على أصحاب هذا المنتج "السري"، فقررت بحاستي الصحفية أن أطلب منها إرسال عبوة واحدة (ثمنها 99 جنيها) على عنوان بيتي لأرى ما الحكاية. وبالفعل جاء المندوب وحاول أن يستفيد هو الآخر بابتزاز مقابل للتوصيل (30 جنيها)!، فقلت له اصبر لكي أرى المنتج أولا، فتغير وجهه محاولا إلهائي بتاريخ الصلاحية.. ولكنني أمسكت بالعلبة وتفحصتها لأجد منتجا رديئا سيء المظهر وغريب من جميع الوجوه، والمهم أنني بحثت عن الجهة المنتجة فلم أجد، وبحثت عن رقم أو تاريخ لموافقة وزارة الصحة أو غيرها فلم أجد، بحثت عن أي عنوان أو رقم هاتف فلم أجد، بحثت عن التركيب أو المكونات فلم أجد شيئا. تزايد القلق على وجه المندوب وفوجئت به يخطف العلبة- جسم الجريمة- ويفر هاربا!. والشيء المحزن أن هذه الطريقة الإعلانية ليست الوسيلة الوحيدة للغش، فالسوق المصرية الآن مليئة بالسلع الرديئة التي لا يملك المواطن وسيلة للتأكد من صلاحيتها.. فنأكل ونشرب ونستعمل الكثير مما يضر بالصحة دون أن ندري، ولا يملك من يكتشف أنه تعرض للغش والابتزاز سوى (الدعاء على الحكومة!) لأنه لا يجد حتى من يشكو إليه، ورغم ذلك يظل استخدام القنوات الفضائية لترويج هذه السلع هو الأكثر ضررا وتحديا لسلطة الحكومة وللمجتمع.
والسؤال المحيّر الذي يدين الحكومة ويقلق المواطن البريء هو كيف يسمح للقنوات الفضائية بالإعلان عن سلع غير حقيقية أو مجهولة المصدر والعنوان؟.. وأين الأجهزة الرقابية؟.. ولماذا لم تفرض هذه الأجهزة أو الوزارة المختصة على القنوات التي تذيع تلك الإعلانات توضيح الجهة المنتجة أو على الأقل الحصول على موافقة الوزارة المختصة على إذاعة الإعلان. إن وسائل الإعلام لها وقعها على المشاهدين، والناس- للأسف- يعتبرون أن مجرد إذاعة الإعلان دليل على أن الدولة تراقب هذه المنتجات مما يمنحهم ثقة غير مبررة في كل ما يذاع. وحل هذه المشكلة لا يكون بالطبع بقرارات غشيمة تؤدي إلى وقف بث هذه القنوات، ولكن المطلوب هو وضع آلية أو نظام للمراجعة والاطمئنان إلى أن هذه الإعلانات لسلع معروفة ومطابقة للمواصفات، فليس من حق أية قناة أن تذيع الإعلانات دون مراجعة لمحتواها وصدقيتها.. وتكفينا اللغة الركيكة والرديئة التي تقدم بها الإعلانات، وما يصاحبها من حركات مبتذلة ولقطات لا تليق بمجتمع متحضر أو متدين. والواجب على الحكومة أن تسابق الزمن وتستفيد من الإمكانات العلمية والتقنية الحديثة لتعظيم دور الرقابة وفرض هيبة الدولة ومؤسساتها.. لا أن تترك هذه الإمكانات للغشاشين وبائعي الوهم. أفيقوا يرحمكم الله.
abdallah_helal@hotmail.com
http://abdallahhelal.blogspot.com