إبراهيم شكري..
الشهيد الحي رحل مظلوما
بقلم د. عبد الله هلال
المصريون 27 - 8 - 2008
عندما وجدت أن بعض أقطاب النظام الحاكم يذرفون دموع التماسيح على الشهيد الحي الذي قتلوه (معنويا) عمدا في خريف عمره المبارك، آثرت عدم التعجل في الكتابة عن هذا الرجل الأسطورة حتى ينقشع غبار ما كتبوه وما صرحوا به، متمسحين فيه وفي تاريخه الأبيض لعل الناس تنسى أفعالهم السوداء معه ومع حزبه وجريدته. ثم جاءت حادثة (إحراق) مجلس الشورى التي ربما أرادها الله تعالى أن تحدث عقب وفاته مباشرة لتكون بمثابة اللعنة على من استخدموا هذا المجلس لتعطيل الحياة السياسية وقتل أهم حزب على الساحة.. لتؤخرني في الكتابة عن هذا الرمز الذي تفخر به مصر والدول العربية. وعلى الرغم من الجحود وقصر النظر الذي عومل به نصير الفلاحين والفقراء إبراهيم شكري من قِبَل أهل الحكم، فإن مصر التي تتميز دائما بوفائها العظيم لأبنائها لم تنسه.. وقد تجلى ذلك في جنازته التي أبرزت الوفاء المصري الأصيل على كافة المستويات.
وتعتبر سيرة حياة الراحل العظيم مثالا حيا للأسوة الحسنة التي ينبغي أن نضعها أمام أعين الشباب المصري ليكون قدوة لهم، فقد كانت وطنيته أكبر من حزبيته.. وانتصر لمبادئه ولوطنه، على حساب الطبقة الثرية التي انتمي إليها.. وقد رحل تاركا من خلفه تجربة سياسية وإنسانية رائدة وفريدة من نوعها، ليتها تدرس لأبنائنا لعلنا نكسب لمصر بعض أمثال هذا السياسي النبيل. وقد سجل إبراهيم شكري على مدى عمره المديد مواقف تلخص سيرة حياة رجل وطني مثالي من الطراز الأول. كانت نشأته كنشأة أبناء العائلات الأرستقراطية في ذلك الوقت، لكنه كان شديد الارتباط بالفقراء والضعفاء، والعطف على العاملين في أرض والده من الفلاحين والخدم. وبعد حركة 23 يوليو مباشرة عرف الضباط الأحرار مكانته ومصداقيته.. فاستقبله جمال عبد الناصر ومحمد نجيب بعد خروجه من السجن، وكرموه على مواقفه المشرفة ضد الملك والإنجليز وعلى حرصه على نصرة الفقراء وصغار المزارعين .
اشتهر شكري بنشاطه السياسي، حتى قبل التخرج في الجامعة ولم ينس الشعب المصري له واقعة إطلاق الرصاص عليه من قبل جنود الاحتلال الإنجليزي على كوبري عباس في نوفمبر عام ١٩٣٥، حينما كان يشارك في مظاهرة طلابية ضد الاحتلال، واستشهد فيها عدد من القيادات الطلابية. لم تكن إصابة شكري قاتلة، لكنها رسَّخت في وجدانه الإصرار على مواصلة الجهاد لتحرير الوطن، من خلال عضويته في حزب مصر الفتاة، رغم معارضة أسرته.. ولقب وقتها بالشهيد الحي.
ويعتبر إبراهيم شكري مثالا حيا للسياسي البارع الذي خرج تلقائيا من صفوف الشعب.. فقد تخرج في كلية الزراعة بجامعة القاهرة، وأصبح في العام نفسه نائباً عن الشعب في مجلس النواب، ليطالب بالمزيد من الحقوق للفلاحين والعمال.. كان يشعر أنهم يعملون كثيراً ولا يحصلون على مقابل عرقهم وجهدهم، فارتبط بهم على الرغم من أنه رحمه الله كان ينتمي إلى عائلة من أكبر وأغنى عائلات مصر. وقد قرن القول بالعمل، ففي الوقت الذي كان يكتب فيه المقالات التي تعبر عن آرائه الغريبة على طبقته، المطالبة بالعدالة الاجتماعية، كان- رغم انتمائه لطبقة الباشاوات- أول من نادى بقوانين الإصلاح الزراعي.. بل إنه وزع جزءا كبيرا من أملاكه الخاصة على فقراء المزارعين من قريته. ولم يقف جهاده ضد الإنجليز والملك والإقطاع عند هذا الحد.. إذ سُجن وهو شاب صغير في عهد الملك فاروق بتهمة العيب في الذات الملكية.. ولم يكن يخشى السجن وهو ابن الباشا؛ فقد كتب قبل سجنه «إننا نري أن وجودنا في السجون للدفاع عن حرية الشعب، هو أحسن وأفضل من أي نزهة نقضيها على أفخر يخت في العالم».
حظي إبراهيم شكري على مدار سنوات نشاطه السياسي باحترام جميع اتجاهات العمل السياسي في مصر، سواء تلك التي اختلفت معه أو اتفقت. لم يلوث يديه أبدا بالمال الحرام.. ولم يلوث لسانه بكلمة نابية أو خارجة.. رغم كثرة صدعه بالحق ووقوفه الدائم مع المظلومين والمقهورين، ووقوفه المستمر في وجه الظلم والجبروت.. ويعتبر واحدا من الشخصيات السياسية القليلة التي تحظى بإجماع كل القوى المصرية والعربية على شرفها ونزاهتها، وهذه نتيجة طبيعية لشهامته ورجولته.. وقوته في الحق.. وتنزهه عن الدنيا ورغبته الحقيقية في الإصلاح الجاد لشئون الوطن. وقد عاش حياته كلها من أجل الدين والوطن.. ولم يتوقف لحظة عن مقاومة الاستعمار الإنجليزي لمصر.. ثم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق. عاش ومات زاهدا ً في الحياة الدنيا، متوجها ً إلى الآخرة.. لا يرجو من السياسة سوي وجه الله. وهذا الصنف قليل في عالم السياسة.. بل في الحياة عموما.
ومن المواقف التي لا تنسى لإبراهيم شكري رحمه الله.. أنه كان من القلائل الذين أصروا على كسر الحصار الصهيوني لياسر عرفات؛ إذ حرص على مقابلته وزيارته حينما كان محاصرا ً في بيروت عام 1982.. في وقت كانت تدك فيه بيروت بالمدفعية الصهيونية صباح مساء.. وقد حاول الكثيرون إثنائه عن السفر خوفا ً على حياته.. ولكنه أصر على ذلك، ونجح في مقابلة عرفات. كما كرر هذا الموقف الشهم والشجاع مع صدام حسين.. حينما كان محاصرا ً في بغداد بعد اشتداد الضغوط الأمريكية والغربية عليه.. وسافر تحت القصف الأمريكي قبل غزو بغداد بيوم واحد فقط. وقبل ذلك جولاته في السودان وليبيا واليمن وسوريا... الخ، في مواقف تضامنية عربية مشابهة، داعيا لإصلاح ذات البين بين الأشقاء العرب.. في وقت كان يخشى فيه أشجع الناس من الإقدام على مثل هذه المواقف.
أما على المستوى الإنساني، فلم أصادف في حياتي رجلا بهذه الرقة وذاك النبل.. كان شديد الحرص على أداء الواجب الإنساني مهما كانت ظروفه.. كان يسافر المسافات الطويلة المرهقة على الطرق الوعرة ليؤدي واجب عزاء أو تهنئة. لا أنسى له حرصه على زيارة مريض أجريت له جراحة بسيطة وهو الذي كان خارجا لتوه من جراحة مشابهة. ولا أنسى عندما كنا مسافريْن بالطائرة نفسها إلى ليبيا، وكان النظام الأمني وقتها يتطلب فحص كل مسافر لحقائبه ورفعها على عربة بجوار الطائرة قبيل الصعود إلى الطائرة.. وكان من الطبيعي أن أبادر إلى حمل حقيبته مع حقيبتي على اعتبار أنني (من دور أحفاده)، وعلى الرغم من أنها كانت حقيبة خفيفة فقد رفض بإصرار وقوة، وأصر على أن يحملها بنفسه قائلا: كل إنسان يخدم نفسه.. بل أحرجني عندما أضاف؛ يجب أن نخدم نحن العلماء!. وعندما دعوته لحضور عقد قراني حرص على الحضور من أسوان إلى القاهرة لكي يلبي الدعوة.
برحيل إبراهيم شكري يكون قد رحل آخر السياسيين المعاصرين الذين فضلوا خدمة الوطن على المنصب الوزاري، فقد استقال من منصب وزير الزراعة ليؤسس حزبا معارضا أمام نظام لا يؤمن بالتعددية ولا يدخر وسعا في محاربة المعارضين والتضييق عليهم وإلصاق التهم الباطلة بهم.. وفي وقت نجد وزراء (آخر زمن) لا يهمهم سوى الاستمرار في المنصب الوزاري ولو كان ذلك على جثة الشعب، ولم نعد نسمع أو حتى نحلم بوزير يقدم استقالته. ولم يسبق إبراهيم شكري في فضيلة تقديم الاستقالة من المنصب الوزاري سوى رفيق جهاده- وأمين عام حزبه (العمل)- الدكتور محمد حلمي مراد، الذي تجرأ بتقديمها لمن كان يخشى باقي الوزراء أن يتنفسوا أمامه!.
رحم الله تعالى المهندس إبراهيم شكري برحماته الواسعة.. وجزاه الله خيرا ً على كل ما قدمه لدينه ووطنه.. وعلى بذله وعطائه وجهده وجهاده وتضحياته... وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وتعتبر سيرة حياة الراحل العظيم مثالا حيا للأسوة الحسنة التي ينبغي أن نضعها أمام أعين الشباب المصري ليكون قدوة لهم، فقد كانت وطنيته أكبر من حزبيته.. وانتصر لمبادئه ولوطنه، على حساب الطبقة الثرية التي انتمي إليها.. وقد رحل تاركا من خلفه تجربة سياسية وإنسانية رائدة وفريدة من نوعها، ليتها تدرس لأبنائنا لعلنا نكسب لمصر بعض أمثال هذا السياسي النبيل. وقد سجل إبراهيم شكري على مدى عمره المديد مواقف تلخص سيرة حياة رجل وطني مثالي من الطراز الأول. كانت نشأته كنشأة أبناء العائلات الأرستقراطية في ذلك الوقت، لكنه كان شديد الارتباط بالفقراء والضعفاء، والعطف على العاملين في أرض والده من الفلاحين والخدم. وبعد حركة 23 يوليو مباشرة عرف الضباط الأحرار مكانته ومصداقيته.. فاستقبله جمال عبد الناصر ومحمد نجيب بعد خروجه من السجن، وكرموه على مواقفه المشرفة ضد الملك والإنجليز وعلى حرصه على نصرة الفقراء وصغار المزارعين .
اشتهر شكري بنشاطه السياسي، حتى قبل التخرج في الجامعة ولم ينس الشعب المصري له واقعة إطلاق الرصاص عليه من قبل جنود الاحتلال الإنجليزي على كوبري عباس في نوفمبر عام ١٩٣٥، حينما كان يشارك في مظاهرة طلابية ضد الاحتلال، واستشهد فيها عدد من القيادات الطلابية. لم تكن إصابة شكري قاتلة، لكنها رسَّخت في وجدانه الإصرار على مواصلة الجهاد لتحرير الوطن، من خلال عضويته في حزب مصر الفتاة، رغم معارضة أسرته.. ولقب وقتها بالشهيد الحي.
ويعتبر إبراهيم شكري مثالا حيا للسياسي البارع الذي خرج تلقائيا من صفوف الشعب.. فقد تخرج في كلية الزراعة بجامعة القاهرة، وأصبح في العام نفسه نائباً عن الشعب في مجلس النواب، ليطالب بالمزيد من الحقوق للفلاحين والعمال.. كان يشعر أنهم يعملون كثيراً ولا يحصلون على مقابل عرقهم وجهدهم، فارتبط بهم على الرغم من أنه رحمه الله كان ينتمي إلى عائلة من أكبر وأغنى عائلات مصر. وقد قرن القول بالعمل، ففي الوقت الذي كان يكتب فيه المقالات التي تعبر عن آرائه الغريبة على طبقته، المطالبة بالعدالة الاجتماعية، كان- رغم انتمائه لطبقة الباشاوات- أول من نادى بقوانين الإصلاح الزراعي.. بل إنه وزع جزءا كبيرا من أملاكه الخاصة على فقراء المزارعين من قريته. ولم يقف جهاده ضد الإنجليز والملك والإقطاع عند هذا الحد.. إذ سُجن وهو شاب صغير في عهد الملك فاروق بتهمة العيب في الذات الملكية.. ولم يكن يخشى السجن وهو ابن الباشا؛ فقد كتب قبل سجنه «إننا نري أن وجودنا في السجون للدفاع عن حرية الشعب، هو أحسن وأفضل من أي نزهة نقضيها على أفخر يخت في العالم».
حظي إبراهيم شكري على مدار سنوات نشاطه السياسي باحترام جميع اتجاهات العمل السياسي في مصر، سواء تلك التي اختلفت معه أو اتفقت. لم يلوث يديه أبدا بالمال الحرام.. ولم يلوث لسانه بكلمة نابية أو خارجة.. رغم كثرة صدعه بالحق ووقوفه الدائم مع المظلومين والمقهورين، ووقوفه المستمر في وجه الظلم والجبروت.. ويعتبر واحدا من الشخصيات السياسية القليلة التي تحظى بإجماع كل القوى المصرية والعربية على شرفها ونزاهتها، وهذه نتيجة طبيعية لشهامته ورجولته.. وقوته في الحق.. وتنزهه عن الدنيا ورغبته الحقيقية في الإصلاح الجاد لشئون الوطن. وقد عاش حياته كلها من أجل الدين والوطن.. ولم يتوقف لحظة عن مقاومة الاستعمار الإنجليزي لمصر.. ثم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق. عاش ومات زاهدا ً في الحياة الدنيا، متوجها ً إلى الآخرة.. لا يرجو من السياسة سوي وجه الله. وهذا الصنف قليل في عالم السياسة.. بل في الحياة عموما.
ومن المواقف التي لا تنسى لإبراهيم شكري رحمه الله.. أنه كان من القلائل الذين أصروا على كسر الحصار الصهيوني لياسر عرفات؛ إذ حرص على مقابلته وزيارته حينما كان محاصرا ً في بيروت عام 1982.. في وقت كانت تدك فيه بيروت بالمدفعية الصهيونية صباح مساء.. وقد حاول الكثيرون إثنائه عن السفر خوفا ً على حياته.. ولكنه أصر على ذلك، ونجح في مقابلة عرفات. كما كرر هذا الموقف الشهم والشجاع مع صدام حسين.. حينما كان محاصرا ً في بغداد بعد اشتداد الضغوط الأمريكية والغربية عليه.. وسافر تحت القصف الأمريكي قبل غزو بغداد بيوم واحد فقط. وقبل ذلك جولاته في السودان وليبيا واليمن وسوريا... الخ، في مواقف تضامنية عربية مشابهة، داعيا لإصلاح ذات البين بين الأشقاء العرب.. في وقت كان يخشى فيه أشجع الناس من الإقدام على مثل هذه المواقف.
أما على المستوى الإنساني، فلم أصادف في حياتي رجلا بهذه الرقة وذاك النبل.. كان شديد الحرص على أداء الواجب الإنساني مهما كانت ظروفه.. كان يسافر المسافات الطويلة المرهقة على الطرق الوعرة ليؤدي واجب عزاء أو تهنئة. لا أنسى له حرصه على زيارة مريض أجريت له جراحة بسيطة وهو الذي كان خارجا لتوه من جراحة مشابهة. ولا أنسى عندما كنا مسافريْن بالطائرة نفسها إلى ليبيا، وكان النظام الأمني وقتها يتطلب فحص كل مسافر لحقائبه ورفعها على عربة بجوار الطائرة قبيل الصعود إلى الطائرة.. وكان من الطبيعي أن أبادر إلى حمل حقيبته مع حقيبتي على اعتبار أنني (من دور أحفاده)، وعلى الرغم من أنها كانت حقيبة خفيفة فقد رفض بإصرار وقوة، وأصر على أن يحملها بنفسه قائلا: كل إنسان يخدم نفسه.. بل أحرجني عندما أضاف؛ يجب أن نخدم نحن العلماء!. وعندما دعوته لحضور عقد قراني حرص على الحضور من أسوان إلى القاهرة لكي يلبي الدعوة.
برحيل إبراهيم شكري يكون قد رحل آخر السياسيين المعاصرين الذين فضلوا خدمة الوطن على المنصب الوزاري، فقد استقال من منصب وزير الزراعة ليؤسس حزبا معارضا أمام نظام لا يؤمن بالتعددية ولا يدخر وسعا في محاربة المعارضين والتضييق عليهم وإلصاق التهم الباطلة بهم.. وفي وقت نجد وزراء (آخر زمن) لا يهمهم سوى الاستمرار في المنصب الوزاري ولو كان ذلك على جثة الشعب، ولم نعد نسمع أو حتى نحلم بوزير يقدم استقالته. ولم يسبق إبراهيم شكري في فضيلة تقديم الاستقالة من المنصب الوزاري سوى رفيق جهاده- وأمين عام حزبه (العمل)- الدكتور محمد حلمي مراد، الذي تجرأ بتقديمها لمن كان يخشى باقي الوزراء أن يتنفسوا أمامه!.
رحم الله تعالى المهندس إبراهيم شكري برحماته الواسعة.. وجزاه الله خيرا ً على كل ما قدمه لدينه ووطنه.. وعلى بذله وعطائه وجهده وجهاده وتضحياته... وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق