إنقاذ التعليم.. يبدأ بإصلاح نظام اللجان العلمية
بقلم د. عبد الله هلال
المصريون 20 - 8 - 2008
تساءلنا في المقال السابق عن السر الكامن وراء التغيُّر السلبي للإنسان المصري.. المحب أساسا للتعليم، ولماذا أصبح هدف الآباء والأمهات هو مجرد اجتياز أولادهم للامتحان "بتفوق" بصرف النظر عن مستوى التحصيل بالسلم التعليمي؟.. وانتهينا إلى أن انتقال الفساد التعليمي إلى الجامعات أيضا هو الذي يشجع أولياء الأمور على محاولة مساعدة أولادهم بالغش لعبور امتحان الثانوية العامة، إذ أن الطالب الغشاش بالثانوي يمكن أن يكون غشاشا بالجامعة؛ إن وجد الفرصة. لابد إذاً من إصلاح الجامعة أولا لكي يمكن إصلاح التعليم بصفة عامة.. وهذا الأمر مطروح بقوة منذ أن ظهر تدني ترتيب جامعاتنا مقارنة بالجامعات العالمية لدرجة أن طلابنا الآن قلقون من عدم الاعتراف بشهاداتهم خارج الوطن. ولكن هل جامعاتنا وصلت هي الأخرى إلى المستوى نفسه الذي نعاني منه في التعليم قبل الجامعي وتحتاج بالتالي إلى سرعة التقويم والإصلاح؟، للأسف نعم.. ويكفي تقييم مستوى الخريجين هذه الأيام مقارنة بمستوى خريجي الجامعات نفسها في الماضي القريب لندرك عمق الأزمة. ولكي نصلح الجامعة فلا مفر من وجود أستاذ جامعي يستحق لقب أستاذ، وهذا موضوع كبير وخطير. ليست المشكلة إذاً في تدني دخول الأساتذة كما يدعي البعض.. ولن نجد حلا لهذه القضية بمجرد زيادة المرتبات، على أهميتها. ولكن لابد من عودة الأستاذ الجامعي إلى مكانته الأصلية المحترمة المفقودة في كثير من الجامعات والمراكز البحثية، ولكي نبين عمق الهوة السحيقة التي انحدرنا إليها؛ نورد أمثلة قليلة وبسيطة (عاينتها بنفسي) يمكن أن تدلنا على موضع الداء.. لأن الفساد هناك؛ في أعلى الرأس!.
في دولة خليجية؛ تعاقدت "أستاذة" مصرية بجامعة إقليمية لتدريس أحد التخصصات الأساسية المهمة.. وكانت المفاجأة المحزنة أن هذه الأستاذة لا تفقه شيئا في ذلك التخصص لدرجة أن الطالبات الخليجيات المهذبات اللاتي يرضَيْن بأقل القليل من العلم- إن أحسن الأستاذ تقديمه- رفضنها وطالبن بتغييرها. وعندما تدخل الزملاء لحل المشكلة، بتشجيع من عميد الكلية الذي شعر بالحرج لأنه كان رئيس اللجنة التي تعاقدت معها، اقترح البعض أن تختار المقرَّر الذي يروق لها وتستطيع أن تقنع به الطالبات (وليكن تخصصها الدقيق).. ولكنها فشلت للأسف في تقديم أي مقرَّر بحجة أنها "مقررات صعبة"، واضطر العميد لإنهاء عقدها. وقد تسببت هذه الواقعة في فتح حوار محرج للمصريين هناك عن مستوى الأساتذة وعن أزمة التعليم في مصر، وكانت فرصة للبعض من غير المصريين للاصطياد في الماء العكر لدرجة أن لجنة التعاقدات للعام التالي- التي كانت تبدأ بمصر عادة- وضعت مصر في ذيل القائمة بعد سوريا والأردن والسودان وتونس. وبالطبع احتدم النقاش بين المصريين عن اللجان العلمية، وكيف تسمح بترقية من هم دون المستوى، وعرفنا أن زوج هذه الأستاذة الموقرة عضو بإحدى اللجان العلمية؛ فبَطـُل العجب!... وذُكِرتْ في المناقشة قصص كثيرة عن التربيطات والهدايا والرِّشا؛ وتصل هذه الرشا للأسف- كما سمعت من بعض الزملاء- إلى مستويات متدنية، مخجلة!.
وقد ذكرتني هذه الحادثة بواقعة أخرى مغايرة حدثت مع زميل مبدعٍ بإحدى الجامعات الكبرى.. إذ كتب مقالا ممتازا لمجلة عالم الكيمياء، وعندما وجدت كرئيس للتحرير أن كتاباته نموذج جيد لتبسيط العلوم طلبت منه الاستمرار في الكتابة، ولكنه اختفى فجأة بعد المقال الثاني.. وبحثت عنه لأجد شخصية مختلفة يتملكها الحزن والاكتئاب، فقد أسقطته اللجنة العلمية (لدرجة أستاذ مساعد) بتوصية من أحد أساتذته لأنه تجرأ ونشر مقالين في مجلة (ثقافية!) دون أن يضع اسمه (أي اسم الأستاذ)، واعتذر المسكين عن الكتابة لحين الحصول على درجة أستاذ قائلا: يجب أن (أمشي جنب الحيط) وأسمع الكلام!.. عارٌ عليّ أمام تلامذتي أن أسقـَط مرة أخرى.
ويتبين من ذلك أن اللجان العلمية- رغم احترامنا لأغلب أعضائها- بنظامها الحالي ليست الوسيلة المثلى لمنح أخطر الألقاب العلمية وأهمها، فالمفروض أن تكون هذه اللجان هي البوصلة التي تضبط الأداء، والميزان الذي يقيم العدل، وهي التي تقرر من الذي يستحق أن يكون عالما وأستاذا نأتمنه على الحقيقة العلمية وعلى مستقبل خريجينا، أي مستقبل الوطن.. فليس معقولا أن تمسخ شخصية الإنسان الجاد لكي يحصل على لقب أستاذ، أو أن تمنح الألقاب للمتسلقين والمنافقين دون حساب. وهناك قصص كثيرة وخطيرة تبين أن التعليم والبحث العلمي في مصر في خطر حقيقي، فكثيرا ما نسمع عن زملاء ظـُلموا عمدا لأسباب شخصية وانتقامية، وزملاء دون المستوى حصلوا على الترقية في لمح البصر، بالتوصيات والمجاملات والهدايا، بل وصل الأمر إلى التغطية والتستر على من حصلوا على الترقية بالتزوير وسرقة البحوث لأنهم أطعموا الأفواه.. فاستحت العيون، والعقول!، ولدينا أمثلة وأسماء لمن يريد.
وعلى الرغم من ذلك فلجان المجلس الأعلى للجامعات تعتبر أفضل حالا من لجان المراكز والهيئات البحثية، وهي جزء لا يتجزأ من المنظومة التعليمية.. وينطبق عليها قانون الجامعات. كان المفروض أن تكون هناك لجنة واحدة قومية لكل تخصص على مستوى الجمهورية؛ تحقيقا للشفافية والحياد والعدالة.. ولكن بعض الهيئات العلمية خارج الجامعات آثرت أن تنشئ لجانا تعتبر بمثابة (دكاكين) خاصة ليظل أمر الترقيات في أيدي قياداتها. ويمكن بسهولة الحكم على مستوى هذه الدكاكين الخاصة بمطالعة أسماء بعض أعضاء هذه اللجان لنجد المزوِّر والمتهم في ذمته، بل ونجد الجاهل الذي لم يبلغ إنتاجه العلمي نصف المطلوب من المتقدمين للترقية!. وقد تعجبت من جرأة أحد مقرري هذه اللجان وهو يتحدث مع زميلته بالطرقات وبصوت عال (دون خشية أن يسمعه الناس) قائلا: والله ما استفدت شيئا من هذه الترقية سوى تعيين ابنتي!. أما أخطر ما في الأمر فهو طلب الرِّشا عيني عينك.. وهذا ما تأكدت منه بنفسي، ولولا ذلك لما صدقت، عندما سأل زميل (معار إلى إحدى دول الخليج) مقرر إحدى اللجان عن الأوراق المطلوبة للترقية؛ فأخذ (المقرر) يتوجع ويشكو سوء الحالة الاقتصادية وضيق ذات اليد وإلحاح ابنه عليه لشراء سيارة.. ثم ألمح إلى سرعة ترقية أستاذ آخر عائد من الخليج قائلا: استطعنا ترقيته قبل تطبيق اللائحة الجديدة لأنه "جدع" ويستحق.. ولكن الزميل لم يفهم الرسالة أو لم يعيرها اهتماما، لثقته في إنتاجه العلمي الذي يبلغ أكثر من ضِعف المتقدمين معه، فأسقطوه ظلما وعدوانا. إلى هنا والأمر يمكن تقديره على محمل الظن أو سوء الفهم، ولكن عندما ذهب الزميل ليتقدم للمرة الثانية استدعى المقرر مدير مكتبه دون مناسبة وطلب منه الاتصال ببنك (...) والسؤال عن الشهادات البلاتينية: فئاتها وعائدها، فأخذ مدير المكتب ينظر إلى الزميل مبتسما ويقول لقد سألت قبل ذلك وأعرف... مبينا قيمة الشهادة المطلوبة!. ولكن الزميل الواثق من مستواه العلمي ركب رأسه ولم يستجب، وبالفعل لم يستطيعوا إسقاطه ثانية، ولكنهم وجدوا طريقة أخرى لتأخيره عن زملائه بتأجيل اعتماد المجالس له دون غيره. وقد وصل الهوان إلى أن إحدى اللجان- وبتدبير من مقررها- تفرض على المتقدمين للترقية، بسيف الحياء والتهديد والابتزاز- وهم منتظرون للدخول للمناقشة- دفع مبالغ مالية كبيرة (بنظام الشحاذة، أو البقشيش) بحجة إحضار وجبة غداء لأعضاء اللجنة!.
ما أوردناه مجرد أمثلة بسيطة لقلة من المفسدين، ولكنها تبين خطورة الأمر، فعندما تتسرب كارثة الرشوة إلى هذه الأماكن الحساسة التي من المفروض أن يقتدي الناس بأهلها، فعلى مصر السلام.. وهذا يدعونا للتفكير في وسيلة أخرى أكثر عدالة وحيادية للحكم على مستوى الأساتذة والعلماء الذين يتعلق بأيديهم مستقبل التعليم والبحث العلمي، بل ومستقبل الوطن كله. وأعتقد أن أفضل طريقة هي إلغاء نظام اللجان والاستعاضة عنه بنظام القوائم.. حيث تنشأ قائمة لكل تخصص بأسماء كبار الأساتذة والعلماء ممن تنطبق عليهم الشروط، وعند تقدم عضو هيئة تدريس للترقية يوزع إنتاجه العلمي على الثلاثة الذين عليهم الدور بالقائمة. وبذلك يصعب تدبير أسماء معينة لأي شخص، ويصعب بالتالي مجاملة أحد أو الانتقام من أحد. وهذا يرفع مستوى الأساتذة ومستوى التعليم بالتالي لأن وجود وسائل غير شرعية للترقية هو الذي يشجع على الكسل وعلى عدم بذل الجهد والاهتمام بالجودة.. وهذا لا يختلف عن فضائح الغش وشراء الامتحانات بالثانوية العامة، فالمصيبة واحدة، وأسبابها ودوافعها ونتائجها واحدة. ولن يتغير ترتيب جامعاتنا بين جامعات العالم أو يُعترف بها دون إصلاح الرأس، فينصلح التعليم كله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق