احتراق وطن!
بقلم د. عبد الله هلال
المصريون 22 - 8 - 2008
احترقت قلوبنا ونحن نشاهد النيران التي أحرقت أهم وأعرق مبني في مصر.. فلقد أتي الحريق على مبنى تاريخي مهم، وعلي أرشيف الملفات البرلمانية وعلى وثائق نادرة كثيرة- مهمة وخطيرة- لا تقدر بثمن ومحفوظة منذ عقود، وثائق لا يمكن تعويضها لأنها تسجل تاريخ مصر السياسي وتراثها النيابي. ويأتي هذا الحريق "الفضيحة" ضمن سلسلة من الحوادث والكوارث التي تؤكد انهيار الجهاز الإداري للدولة وتحلله تماما بعد أن أصيب بالشيخوخة والشلل وعشش فيه الفساد وسادت العشوائية والتخبط وانتشر الإهمال، ولم يعد هناك من يحرص على أداء واجبه الوظيفي، ناهيك عن الواجب الوطني. فلقد أثبت هذا الحريق ضعف الاستعدادات واستخدام وسائل الإطفاء العادية والتقليدية، بالإضافة إلى الغياب التام للتفكير العلمي المنطقي، وعدم الاستفادة من المنجزات العلمية والتقنية التي يتمتع بها العالم منذ زمن طويل مما أدى إلى تفاقم الوضع. ألا يدرك المسئولون فينا أن الدنيا تقدمت وأصبحت هناك مساحيق كيميائية تستخدم لإطفاء حرائق الأماكن المهمة التي بها أوراق أو آثار مهمة لا يجوز أن تصل إليها مياه الإطفاء؟.. ألم يسافر هؤلاء المسئولون إلى الخارج ويشاهدوا خلايا استشعار الدخان المثبتة في الأسقف لتأمين المباني بالإنذار وبالدفع الآلي لمساحيق الإطفاء تلقائيا عند وجود أي دخان؟.. ألم يسمعوا عن خطط الطوارئ التي تتدرب من خلالها فرق الإطفاء عمليا ودوريا على إطفاء مختلف أنواع الحرائق؟. إن المبنى المحترق منشأة أكثر من مهمة وتخضع عادة لتدابير أمنية مشددة ، ويقع في مكان أكثر من مهم، ومعروف أنه مسقوف بالخشب القابل للحرق، والحكومة بأجهزتها الأمنية موجودة هناك على مدار الساعة، ونقطة الإطفاء موجودة أمامه مباشرة بمجمع التحرير.. فكيف يحترق المبنى بهذه الكيفية مما دفع القوات المسلحة إلي التدخل وإرسال الطائرات العمودية للمساهمة في إطفاء الحريق، ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن خرجت النيران عن السيطرة. لقد احترقت- ومعها قلوبنا- قاعة مجلس الشورى التي تمثل قيمة تاريخية كبيرة، وكانت تضم مجلس النواب قبل عام 1952 عندما كانت مصر تعرف حياة ديمقراطية حقيقية مزدهرة.. وأثرت النيران والمياه المستخدمة في الإطفاء على المبنى الأثري الذي يرجع تاريخ إنشائه إلى مائتي عام، والعالم كله يشهد فضائحنا على القنوات الفضائية ودون أن يحاسب أحد، أو يخجل أحد من نفسه ويستقيل؟.. هل هو الإهمال والكسل والتواكل وإسناد الأمر إلى غير أهله؟، أم الجهل والسطحية واتباع أسلوب الفهلوة وغياب الخطط المبنية على الأسلوب العلمي؟.
لقد غاب العلم وغاب "أهل الخبرة"، وتزايدت المصائب والكوارث على أيدي "أهل الثقة" الذين أثبتوا أنهم ليسوا أهلا للثقة. وأيا كان الأمر.. فهذا جرس إنذار بأن الوطن كله يحترق أمام أعيننا ولا أحد يحرك ساكنا، الوطن يحترق ورجال الأعمال المسيطرون عليه مشغولون بأموالهم واحتكاراتهم ونزواتهم، وأجهزة الدولة مشغولة بحمايتهم وتأمينهم، والشعب يحترق هو الآخر بنار الغلاء والبطالة والجوع والمرض. هل هناك من بين أهل الحكم من يقوم بالتخريب, ويسعي إلي هدم النظام, ويعمل علي إسقاط الحكومة من داخلها?.. لقد تكرر في الآونة الأخيرة الكثير من الوقائع والظواهر التي تدل علي أن هذا السؤال مطروح بالفعل, وإلاّ فالبديل هو إما أن الحكومة غائبة عن الوعي ولا تعرف رأسها من رجليها وإما أنها تتسلح بالعناد وتتعمد عدم التنازل أمام الشعب (مصدر السلطات), أي تأخذها العزة بالإثم.. وفي كل الأحوال فهذا يعني أن تلك الحكومة غير جديرة بمسئولية الحكم, وأنها فاقدة للشرعية. ولكن المثل يقول إن مصر بلد العجائب ومن أعجب ما شهده القرن الأخير ظاهرة الحكومات المعمًّرة! قد يكون هناك مبرر للبقاء «الدائم» في الحكم إن كان ذلك برغبة الشعب وكانت الحكومة ناجحة وتقدم كل يوم جديدا.. أما أن يطول البقاء في السلطة لحكومة خائبة وفاشلة وليس لديها خطة مستقبلية لعلاج هذا الفشل, فذلك مما يدعو إلي السخرية والعجب فمصر تنفرد - علي عكس الدنيا كلها - بتخلف القطاع الحكومي عن القطاع الخاص, مع أن الحكومة هي التي تملك ميزانية الدولة وهي التي تخطط وتنفذ ما تشاء من الأعمال وتستطيع أن تستحوذ علي أفضل العقول وأعلي الكفاءات. وفي أي دولة صغرت أم كبرت تجد التنافس بين الناس للالتحاق بالمستشفي الحكومي أو الجامعة الحكومية أو المدارس الرسمية سعيًا للحصول علي أعلي المرتبات وأفضل المزايا العلاجية والتأمينية.. أما في مصر العجيبة فالناس يفرون من الحكومة فرار السليم من الأجرب, فالمنشأة الحكومية هي الأقذر وخدماتها هي الأسوأ والشيء الغريب أن العاملين الفاشلين في الصباح (بالمرافق الحكومية) هم أنفسهم الناجحون في المساء (بالقطاع الخاص). فهل يرجع ذلك إلي خلل مزمن وتخلف في الإدارات الحكومية أم إلي تداخل مريب بين القطاعين؟.. وإذا كانت الأولي فلماذا تعمر حكومة متخلفة, وإذا كانت الثانية فمن المستفيد ومن الذي يقف خلف تخريب القطاع الحكومي لصالح الأعمال الخاصة?! خذ مثلا قطاع التعليم، تجد كتابا حكوميا يعلم الجميع أنه يلقي بالقمامة.. وبالمقابل هناك كتب خاصة هي الرائجة وتحقق المليارات لأصحابها, وإذا فتشنا عن أصحاب هذه الكتب فسوف نكتشف بسهولة السر في سوء حالة الكتب الحكومية, وقسّ علي ذلك مملكة الدروس الخصوصية والجامعات والمدارس الخاصة وغير ذلك الكثير. لذلك فليس متوقًعا, في ظل هذه الفلسفة الحكومية, أن تفلح الحكومة في صنع أي شيء مفيد.. فقد تخلفنا في جميع الميادين ولم ننجح في تطوير صناعة أو التفوق في إنتاج سلعة وتصديرها أو حتى الحفاظ علي تفوقنا التاريخي في الزراعة, فصرنا كمن يمشي للخلف, لأن كل فرد يعمل لصالحه هو وليس لصالح الوطن وقد استسلمت الحكومات المتعاقبة لهذا الفشل والشعور بالعجز ولم نجد حكومة واحدة تحاول أن تضع خطة لحل أي مشكلة مزمنة مثل الأمية أو انتشار مرض البلهارسيا أو البطالة أو حتى النظافة.. رغم الطنين الإعلامي وإدعاءات تحقيق ما يسمونه المشروعات الكبرى.. ولا ندري لماذا لا يخجلون مثلا من هذه القذارة التي تملأ شوارعنا أو الحفر والمطبات التي لا يخلو منها شارع أو الحوادث المرورية التي تحصد آلاف الأرواح دون أن يقلق أحد أو يأمر بدراسة تلك الظاهرة, لماذا لا يخجلون من الفشل في حل مشكلة الاشتباك المروري اليومي?. ولماذا يلقون باللوم علي المواطن الذي لم يجد نظاما ليتبعه? لو أنهم قالوا هذه خطتنا لإنهاء الأمية مثلا ولو بعد مائة سنة لالتمسنا لهم العذر, ولكنهم لا يملون من النظر تحت أقدامهم, والتغني بالإنجازات!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق