المصريون 15 سبتمبر 2008
الوســـط 29 سبتمبر 2010
استعرضنا في المقال السابق بعض أسباب الأزمة المرورية الخانقة التي صنعت مأساة عجيبة دون داع، وانتهينا إلى ضرورة تخطيط أماكن الانتظار وتمييز الأماكن غير المسموح بالانتظار فيها، وإلزام قادة السيارات بمعرفة قواعد وآداب المرور من خلال امتحانات جادة، والاهتمام بمصافي (Filters) الخروج من الطريق الرئيسي (إلى اليمين واليسار) والإكثار منها والإلزام بها.. ونواصل مناقشة أسباب الأزمة المرورية وسبل تجاوزها:
• مما يعرقل المرور ويقلل انسياب حركة السيارات وجود الكثير من "البلاعات" على يمين ويسار أغلب الشوارع، والغريب أن الإدارات المحلية لم تصل بعد إلى طريقة لضبط ارتفاع هذه البلاعات لتكون في مستوى الشارع!. وهذه البلاعات تتسبب في إهدار ما يقرب من ربع مساحة الطريق.. إذ يتجنبها قادة السيارات حماية لمركباتهم. وهناك أيضا محطات حافلات النقل الجماعي.. وهذه ينبغي تدبير مساحات لها خارج مسار الطريق ومنع الوقوف في حارات السير الطوالي، كذلك يجب تحديد أماكن شبيهة لسيارات الأجرة بحيث يمنع الوقوف المفاجئ لهذه السيارات في الأماكن التي تحلو لقادتها.. فكثيرا ما نفاجأ بوقوفهم في أماكن خطرة تعطل حركة السير وتسبب الحوادث أحيانا، وهذه الأماكن الخطرة ينبغي تمييزها باللون الأصفر وتحرير مخالفات فورية لمن يتجرأ عليها.
• ومن أسوأ ما يعرقل حركة المرور عدم وجود آلية لسرعة التصرف في حالات الحوادث والتصادم؛ وفي أغلب دول العالم نجد شرطة المرور حاضرة (في لمح البصر)، ونجد مع قائد السيارة بطاقة بيانات يقوم بتعبئتها وإعطائها لزميله (في التصادم) دون مشاجرة أو تعطيل، لأن القانون صريح وسريع التطبيق ولا يستطيع أحد أيا كان مركزه الإفلات منه.. كما أن شركات التأمين تقوم بدورها بسلاسة وسرعة ودون تعقيد. وقد تعجبت عندما رأيت العديد من حوادث التصادم في بعض دول الخليج؛ حيث يتصافح قائدي المركبتين ويهنئا بعضهما على السلامة من التصادم، وتسير الإجراءات بكل لطف وسلاسة وسرعة دون تعطيل للمرور، ودون شجار. ألم يحن الوقت لتفعيل عمليات التأمين على السيارات وتحمل شركات التأمين لمسئولياتها؟!.
• وهناك أيضا إشغالات الطريق؛ مثل مواد البناء ونواتج الحفر والهدم للمنشآت التي تقع على الطرق، فهذه تسبب عراقيل خطرة. والواجب منع أصحاب المنشآت من تكديس المواد أو المخلفات بالشارع، أو فرض رسوم كبيرة عليهم (إن كانت حركة المرور تسمح بالتكديس المؤقت) لإرغامهم على سرعة إزالتها.. كما ينبغي منع أعمال الحفر وصيانة الجسور وغيرها إلا في ساعة متأخرة من الليل.. وهذه كلها حلول عملية بسيطة لا تكلف كثيرا إن وُجدت الإرادة والرغبة في إنهاء مأساة المرور. ونقترح أن تقوم الإدارات المحلية باقتناء مقطورات متوسطة الحجم- يسهل جرها بواسطة جرار أو سيارة- تؤجر للقائمين بأعمال البناء والهدم بأجر رمزي للتخزين فيها والتخلص مما فيها كلما امتلأت بدلا من التجرؤ على الشوارع.
• ومن مسببات أزمة المرور أن النوادي الرياضية- رغم سعتها- تسهم في شل حركة المرور في محيطها في فصل الصيف لأن روادها يتركون سياراتهم أمامها وحولها.. وفي الدنيا كلها تـُلزم كل منشأة بتدبير أماكن انتظار لسيارات روادها، وعندما كنت أدرس في الولايات المتحدة وتم بناء مسجد بالمدينة رفضت سلطات الولاية التصريح باستخدامه قبل تدبير مكان لكل السيارات المتوقع وجودها في صلاة الجمعة "بالذات"، وتم ذلك بالفعل قبل افتتاح المسجد. والواجب إلزام النوادي بتدبير أماكن داخلها ومنع الانتظار في الشوارع.. لأن الراحة التي تحصل عليها القلة من أعضاء النادي تكون على حساب الكثرة من المواطنين المعذبين من التكدس والحر وتعطيل المصالح.
• هناك العديد من الميادين التي لا تخلو من الزحام لأنها بمثابة عنق زجاجة، وبعضها يحتاج إلى (جراحة) كحل وحيد، وهي إنشاء نفق لفك الاشتباك.. ولنضرب مثالا بشارع الخليفة المأمون وميدان العباسية: لماذا لا تنشئ جامعة عين شمس نفقا للمشاة بين قسمي الجامعة؟.. ولماذا لا ينشأ مدخل للجامعة في شارع لطفي السيد؟.. بل لماذا لم يستفد مصمموا جسر أكتوبر من مروره داخل الجامعة بإنشاء منزل أو مطلع أو كليهما إلى داخل الجامعة؟. إن آلاف السيارات وعشرات الآلاف من الطلاب يدخلون ويخرجون من هذه الجامعة يوميا، ووجود منافذ متعددة سوف يقلل الضغط على الميدان، ولن يضر شيئا آخر. وتستطيع الحكومة أن تنشئ العديد من الأنفاق دون تكلفة بإنشاء محلات على جانبي النفق وبيعها.. كما لاحظت في مدن عديدة مثل استانبول. وهناك تقاطعات وميادين يصلح لها نظام الدوار (أو الصينية)، مثل تقاطع المطار مع الكلية الحربية المكتظ بالمرور على الدوام.. رغم سعة المكان، فوجود دوار واسع ومصفاة (ملزمة) لكل اتجاه جانبي، مع تعويد قادة السيارات على أن الأولوية للقادم من اليسار يمكن أن يسهم كثيرا في سيولة المرور في هذا الميدان الحيوي، وغيره.
• ومن التصرفات التي تعرقل انسياب حركة المرور ويمكن التغلب عليها قيام عمال النظافة بجمع الأتربة ووضعها في عربات تدفع باليد أثناء ذروة الازدحام بالنهار.. فكثيرا ما يفاجأ قائد السيارة الذي يتجاوز المركبة التي أمامه بهذه العربات والعمال المساكين الواقفين في قلب الخطر.. لماذا لا يخصص وقت مناسب لذلك في ساعة متأخرة من الليل أو عند بزوغ الفجر، مع منح هؤلاء العمال الحوافز المناسبة؟!.
• وهناك أيضا مشكلة الباعة الجائلين الذين يفترشون الشوارع، خصوصا عندما يوجد سوق في أحد أيام الأسبوع- مثل سوق (الخميس) بالمطرية، حيث تشل حركة المرور، ويختلط الحابل بالنابل ويزيد قادة حافلات الميني باص الطين بلة بالسير في الاتجاه المخالف هربا من الزحام فيتسببون في إغلاق الاتجاهين. ومن السهل طبعا إلزام الباعة بالابتعاد عن نهر الطريق وتوقيع عقاب فوري رادع على قادة السيارات المخالفة. ومشكلة الباعة الجائلين لا تحل بأساليب الطرد ومصادرة البضائع، فهم مواطنون يبحثون عن أرزاقهم، والجمهور يحتاج إليهم.. والواجب على الإدارات المحلية البحث في إنشاء عدد من الأسواق الشعبية في الأحياء المختلفة، بتوفير مساحات خالية وتخطيطها ووضع نظام للنظافة الذاتية وتخصيصها لهؤلاء الباعة الذين لا يجدون غير الشارع لمزاولة نشاطهم فيعرقلون المرور ويملأونه أيضا بالقمامة.. وهذا مظهر غير حضاري تجب المسارعة في القضاء عليه.
• كذلك؛ هناك مشكلة الشرطي (المجند) المسكين الذي يقف بالشارع في ظروف غير آدمية، وهو في أغلب الأحوال لا يقرأ ولا يكتب ولا يمتلك من الشخصية ما يؤهله إلى إدارة حركة شارع رواده بالنسبة له "بهوات" ربما يخشاهم، لذا فالشرطي المجند مؤقتا لا يصلح لهذه العملية.. فهي تحتاج إلى صنف آخر يؤهل لها ويحصل على مرتب يكفيه وأسرته، وتكون هذه مهنته التي يحافظ عليها ويجيدها ويحسن التصرف عند حدوث أمور غير عادية.. أما الشرطي المجند الموجود حاليا فهو آخر من يصلح لهذه المهنة، ولن تخف مأساة المرور الجنائزي الحالية دون إيجاد البديل.
• وأخيرا وليس آخرا؛ نتحدث عن (الإنسان) الذي من أجله وضعت القواعد وشرعت القوانين، بل ونشأت الحكومات والإدارات.. الإنسان الذي يجب أن نوفر له الراحة والأمان سواء كان راكبا أو ماشيا. والمشاة في بلادنا أكثر بالطبع من الركاب، ولكن للأسف تم التركيز على السيارات وركابها لتوفير أكبر سيولة للسيارات مع تجاهل المشاة. فالنظام الذي ألغيت بموجبه الإشارات بالدوران حولها (U turn)- وهو نظام جيد رغم بعض العيوب- ساهم بالفعل في التخلص من كثير من الإشارات وتقليل الاختناقات نسبيا.. ولكنه كان وبالا على المشاة المساكين الذين لم تعد لهم إشارات ولا أماكن للعبور. وهناك شوارع بلغت فيها كثافة السيارات وسرعتها حدا يستحيل معه العبور الآمن.. وتحول الناس إلى ما يشبه القرود التي تتقافز بين السيارات المسرعة، وهذا يؤثر سلبا على حركة المرور لأن قائد السيارة يتوقع عبور المشاة في كل لحظة وفي كل مكان. وهذه المشكلة لابد من إيجاد حل فوري لها بتخطيط أماكن متعددة لعبور المشاة ووضع إشارات ضوئية بها، وهذه لن تعطل المرور لأن عبور المشاة لا يستغرق وقتا طويلا؛ وخير لقائد السيارة أن يقف دقيقة في كل إشارة بدلا من السير المضطرب بين الناس. ونظرا لأننا دولة كثيفة السكان فينبغي التفكير الجدي في الإكثار من أنفاق المشاة المزودة بسلالم كهربية.. وهذه- كما أسلفنا- يمكن ألا تكلف الحكومة شيئا إن قامت بإنشاء محال تجارية على جانبي كل نفق وبيعها أو تأجيرها، فتسترد التكلفة وتحد في الوقت نفسه من مشكلة الباعة الجائلين. الإنسان المصري يحتاج أيضا إلى محطات حافلات واسعة بها مظلات ومقاعد لمنع التكدس خارج هذه المحطات، مما يعطل المرور.
(يتبع: مقترحات للحل الشامل)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق