لا ملجأ من الله إلا إليه.. ولا يصح إلا الصحيح.. ولا يمكن لنظام وضعي مجافٍ للفطرة الإنسانية أن يسود أو يستمر؛ فها هي الرأسمالية المتوحشة تلحق بغريمتها الشيوعية الملحدة في أقل من عقدين، بعد أن خرّب النظامان الاقتصاد العالمي ونشرا الفقر والجوع والظلم في أنحاء العالم. لم يكن ممكنا أن يستمر نظام هلامي قائم على المضاربة، غير مرتكز على أصول إنتاجية حقيقية، وعموده الفقري الربا- الذي حذرنا الله تعالى منه بأقوى تحذير (فأذنوا بحرب من الله ورسوله). لقد أخذتهم العزة بالإثم، وتكبروا على شرع الله.. فكلما اجتهد العلماء وخبراء الاقتصاد في بحث أفضل السبل لإنقاذ الاقتصاد العالمي وجدوا أن الحل الأمثل هو تخفيض فوائد البنوك لتصل إلى الصفر (أي إلغاء الربا) وتثبيت الضرائب عند نسبة 2.5% (وهي قيمة الزكاة- كما شرعها الله تعالى)... فتـُرفض توصيات العلماء ليس فقط لأنها تتطابق مع الشرع الإسلامي الذي يناصبونه العداء.. ولكن أيضا لأن تطبيق النظام المالي الإسلامي يعني احترام خمسة مبادئ تتصادم كليا مع الحضارة الغربية المادية وهي؛ تحريم الربا، وتحريم بيع الغرر والميسر، وتحريم التعامل في الأمور المحرمة شرعاً (الخمر والزنا..)، وتقاسم الربح والخسارة، وتحريم التورق إلا بشروط. وليس هناك من شك في أنهم يعرفون جيدا ما ورد بالقرآن الكريم بشأن الربا، وعلى علم تام بالتحذير الإلهي (... فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)، وهذا ما يحدث حاليا ليكون الجزاء من جنس العمل.. إنها معجزة.
وبالطبع فليست المعجزة في أن ينتصر الإسلام في ظل تفوق المسلمين وتقدمهم وسيادتهم على من عداهم.. ولكنها تكون معجزة، وأكثر من معجزة، عندما ينتصر الإسلام في وقت تخلف فيه المسلمون، وتفرقوا، وتقطعت أوصالهم، واحتـُلت ديارهم، ولم يعد لهم وزن بين الأمم الأخرى. والمتأمل لأحوال المسلمين في العصر الحديث يتعجب من الحملة العالمية الإجرامية على كل ما يمت للإسلام بـِصِلة، على الرغم من الهوان الذي تعانيه كافة الشعوب المسلمة.. ولكن هذا يدل دلالة قاطعة على أن أعداء الإسلام لا ينظرون إلينا نظرة سطحية؛ فهم يدركون أن الإسلام كدين، وكعقيدة وشريعة، يشكل بديلا قويا وجاهزا لحضارتهم الآخذة في الأفول، ويفهمون أن الإسلام قادر على الأخذ بيد المسلمين وعلى انتشالهم من حالة الضياع الحالية.. وهم بذلك يدركون جيدا أننا أمة حية، ولو كنا أمة ميتة - كما يبدو على السطح- لما احتاجوا إلى نصب المذابح للمسلمين في أرجاء العالم، فالميت لا يحتاج إلى الذبح، ولكن إلى الدفن.
لقد بدأت دلائل وبشائر معجزة انتصار الإسلام عندما استقوى الدب الروسي الضخم المتمثل في الاتحاد السوفيتي البائد على الجارة الصغيرة الضعيفة الفقيرة؛ أفغانستان.. ولم يكن متصورا أن تكون نهاية هذه القوة العظمى على أيدي شباب المجاهدين الذين لم تكن إمكاناتهم (المادية) تسمح بمجرد البقاء على قيد الحياة في مواجهة أكبر ترسانة عسكرية. ثم جاء القطب الثاني الذي اغتر بقوته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وظن أن بإمكانه إعادة استئناف الحملة الصليبية ضد الإسلام بناء على واقع حكوماتنا المنحنية له، والانحناء يغري بالامتطاء.. فقد كشف الرئيس الأمريكي جورج بوش- قائد الحملة الصليبية الجديدة- عن حقيقة نواياه ونوايا إدارته تجاه الإسلام والمسلمين.. ذلك أنه لم يحاول أن يخفي ما تمتلئ به نفسه من حقد على كل ما هو إسلامي, معلنا في كثير من خطبه أن الشر كله مركز في الجانب الإسلامي. وقد بدأت هذه الحملة قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر في كل من البوسنة والهرسك وكوسوفا وفلسطين والعراق وإيران وليبيا والسودان والصومال وأفغانستان (بالإضافة إلى مباركة حرب الروس ضد الشيشان), ولكن هذه الهجمات وما تلاها من استقواء أمريكي وانحناء لحكومات الدول العربية والإسلامية عجلت بتنفيذ المخطط الشيطاني. وقد فضح هذه الحملة الصليبية الجديدة توجه القوات الأمريكية في بداية حملتها عقب الحادي عشر من سبتمبر إلى كل من الفلبين وكينيا للقضاء علي الأقليات الإسلامية هناك.. إذ صار بوش "تحت الطلب" لأية دولة تريد التخلص من المسلمين فيها. ولم تكن هناك أدنى شبهة لأي دور للمسلمين في الفلبين وكينيا في الهجوم على أمريكا, بل إن الأخيرة نفسها لم تدَّعِ ذلك, وكلتا الأقليتين مضطهد ومهضوم الحقوق ولهم مطالب شرعية لا يستطيع أحد أن ينكرها عليهم، ولو أن هناك أحرارًا في عالم اليوم لقاتلوا من أجل نصرة هؤلاء المظلومين. ولكن مدعيّ حقوق الإنسان يتظاهرون برعاية الحيوانات والطيور, ولا تطرف لهم عين وهم يقتلون البشر من المسلمين.
المهم أن أمريكا لم تنتصر في أي موقع، بل ورَّطت نفسها (والغرب كله) في فيتنام جديدة بكل من العراق وأفغانستان، ولم ينتصر وكيلها الصهيوني في لبنان أو حتى فلسطين، وفشل وكيلها الحبشي في الصومال.. وبدأ العالم يشعر بقرب نهاية القوة العظمى المتوحشة على أيدي المسلمين أيضا، حتى جاء الإعصار المالي كمعجزة إلهية تكشف عورات الحضارة الغربية وتثبت مساوئ الرأسمالية، وتنبئ بنهاية هذه القوة الطائشة.. وأول الغيث ما حملته الأنباء عن العجز في الميزانية الأمريكية الذي تضاعف ثلاث مرات. لم يتعظ قادة الرأسمالية من آثار هذا النظام الرديء على الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية والأسرية في بلدانهم، فالنظرة المادية البحتة كانت هي المسيطرة على عقولهم مما حول الإنسان الغربي إلى آلة بهيمية لا يهمها سوى الاستمتاع بالمتع والغرائز الدنيوية.. ولكن عندما جاءهم الزلزال من الزاوية الاقتصادية وشعروا بخطورة ما ينتظرهم من تهديد لواقعهم المادي بدءوا يفيقون ويبحثون عن مخرج؛ حتى وإن كان الدواء مُرَّا لأنه موجود بالقرآن الكريم الذي حاولوا لقرون ممتدة محوه من الوجود، أو تزييفه!. وهذا الكلام ليس من عندي.. فقد شهد شاهد من أهلها؛ إذ دعت كبريات الصحف الاقتصادية في أوروبا، إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي كبديل عن النظام الرأسمالي الذي يقف بحسب تحليلها وراء الكارثة الاقتصادية التي تخيم على العالم حاليا. وفيما بدا استجابة لهذه الدعوات أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية، وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات المصارف، قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي تتم في إطار النظام الرأسمالي، واشتراط التقابض في أجل أقصاه ثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتفق مع أحكام النظام الاقتصادي الإسلامي.
أليست هذه فرصة ثمينة للعرب والمسلمين للمبادرة ومحاولة الأخذ بيد العالم- الذي يعاني من جاهلية العصر الحديث- من خلال إبراز نموذج التمويل الإسلامي كطوق نجاة.. والذي يوفر أساليب اقتصادية بديلة لنموذج التمويل التقليدي الحالي الذي يتعرض للأزمات بسبب تنامي ظاهرة الاستثمار في النقود، وهي السبب الأساسي للأزمة الحالية، والمرضُ الكامن في النظام الاقتصادي الرأسمالي. لا مفر الآن في ظل هذه الأزمة الخانقة من الاستجابة والخضوع للنظام الإلهي بتوسيع القاعدة الإنتاجية في مشروعات حقيقية تلعب فيها المصارف دور الشريك وليس المقرض، وهو نظام مثالي يحمي من التقلبات التي تحدثها التجارة في الديون. والواقع المؤلم أن حكومات الدول العربية تقف عاجزة تماما عن التفاعل مع العالم (أو حتى مع شعوبها) لمواجهة هذا الإعصار المالي.. وهذه للأسف طبيعة النظام الرسمي العربي الذي أدمن (رد الفعل)، ولم يبادر يوما إلى (الفعل). فهم ينتظرون ما يقرره قادة الغرب تاركين مصيرهم ومصير شعوبهم في أيدي من لا يبحثون سوى عن مصالحهم الخاصة. ومن المتوقع أن يكون العرب هم الخاسر الأكبر في هذا الزلزال المالي، لأنهم عودوا العالم على أنهم الحلقة الأضعف، أو الحائط المنخفض؛ الذي يغري بالامتطاء. فالأموال العربية مخزنة في المصارف الغربية أي في بؤرة الخطر.. والسلعة العربية الأولى (النفط) يتحكم فيها الغرب ويمكنه أن يخسف ثمنها، وقد بدأ!. فماذا ينتظر العرب لكي ينطقوا أو لكي يفعلوا شيئا.. ربما يخشى البعض منهم أن تنكشف أسرار أرصدتهم السرية بالمصارف السويسرية وغيرها، فآثروا الصمت. ولكن هذا لن يعرقل أو يخفي معجزة انتصار الإسلام ونظامه الاقتصادي المثالي.. في ظل ضعف المسلمين.
- وختاما نسأل أهل الحكم- بعد أن بدأ أفول نجم الرأسمالية بتأميم مصارفها- هل لا زلتم مُصرِّين على عمليات الخصخصة (المشبوهة) وبيع البنوك والأصول الإنتاجية بتراب الفلوس؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق