آثرت التريث في الكتابة عن الحوادث المرورية حتي يجف دم ضحايا مرسى مطروح, فقد بلغت فظاعة الحادث مبلغا تصعب معه القراءة والمتابعة, إذ تأثر الناس بالأشلاء والدماء.. المهدورة بلا داع. ويحق لنا أن نتساءل: ما هذا النزيف الدموي الذي لا يتوقف على الطرق المصرية؟!.. كيف تقع كل هذه الحوادث اليومية التي تنشرها الصحف ولا يتحرك أحد لبحث هذه الظاهرة المؤسفة التي تبتلع أسرا كاملة أو ركاب حافلة أوسيارة بالكامل؟! هل كلفت أية جهة نفسها بحصر ضحايا الطرق وإجراء الدراسات الاحصائية اللازمة ومقارنة أعداد القتلى والمصابين في مصر بأمثالهم في الدول الأخرى, علما بأن ما لا ينشر من الحوادث أكثر بكثير مما ينشر؟!
وماذا فعلت الجهات المسئولة لتقليل أو منع هذه الكوارث؟ وإذا لم تكن قد فعلت وهذا هو الواقع فما الفائدة من وجودها؟ كما يحق لنا أن نتساءل.. عن شماعة القضاء والقدر التي لا نتوقف عن استخدامها: لماذا يختارنا القضاء والقدر دون خلق الله في أغلب دول العالم؟, ولماذا يكثر عدد الضحايا في حوادثنا, وتتضخم الخسائر الاقتصادية بلا أي مبرر؟, أليست هناك دلالات يمكن الاستفادة منها للعمل على تقليل الحوادث وتقليل عدد الضحايا؟!. أفيقوا أيها النائمون, فقد وصل الأمر إلى حد الكارثة, ولم يقتصر على الطرق السريعة, فلا فرق الآن بين هذه الطرق وشوارع المدن, ومنها العاصمة..
بل لقد وصل الإهمال إلى تكرار الحوادث البشعة المتشابهة في المحافظة الواحدة, في أيام متوالية رغم الاهتمام الرسمي والاعلامي والشعبي بالحوادث الكبيرة مما يفترض أن يدعو للانتباه واليقظة, ولو إلى حين!. وهذا يعني أن مشكلة الحوادث المرورية وصلت إلى مستوي مقلق لا ينبغي السكوت عنه أو تجاهل دلالاته, كما يعني أن هناك شيئا ما خطأ لابد من البحث عنه وإيجاد السبل الكفيلة بتجاوزه. والواقع أن هذه المشكلة تعتبر من المشكلات اليسيرة جدا التي تواجه الحكومات والادارات المحلية لو وجدت النية الصادقة لإيجاد حلول لها.. فنحن نعلم ـ على سبيل المثال ـ كيف يحصل الناس في بلادنا على رخص القيادة بسهولة غير عادية لدرجة أن بعض االدول العربية لا تعترف بالرخصة المصرية,
ونعلم ما يحدث أثناء الفحص الفني للسيارات عند تجديد رخصة السيارة, ونري بأعيننا كيف تسير السيارات بدون اضاءة خلفية وتمر على نقاط التفتيش المروري دون أن يوقفها أحد, ونعاني من الشاحنات التي تحمل الرمل والزلط وخلافه وتقذف به على السيارات التي تسير خلفها وتصيب زجاجها بسبب إهمال تغطية الحمولة, ونشاهد التقاطعات الخطيرة التي تحدث بها تصادمات يومية دون أن يكلف مسئول نفسه الأمر بوضع تحذير أو اشارة, ونمر في كل مكان علي المطبات والبالوعات التي تفاجيء قائدي السيارات فيضطرون إلي الانحراف المفاجيء والاصطدام بخلق الله أو بالسيارات الأخرى, ونعاني من الشاحنات التي يصر قادتها على السير في يسار الطريق معطلين من وراءهم.
كما أن بلدنا الجميلة هي الوحيدة في العالم تقريبا التي نشاهد فيها سيارات الأجرة وقد أدمنت الوقوف لتحميل الركاب أو تفريغهم في مطالع ومنازل الجسور( الكباري) وفي مداخل ومخارج الشوارع وفي التقاطعات الخطرة. وهناك ظواهر الجهل التام بقواعد المرور وإهمال الصيانة الدورية للمركبات, والسائقون المهنيون غير المؤهلين الذين لم يهتم أحد بتدريبهم وتعليمهم السلوكيات الأساسية اللازمة للتعامل مع الآخرين أثناء القيادة, ولا حتى حمايتهم ووقايتهم من داء الشم و السكر أثناء القيادة.. فرغم أن الصحف تذكر في حوادث كثيرة أن السبب هو أن السائق كان سكرانا, لم يحدث أي تصرف رسمي أو مجتمعي لمنع هذه الظاهرة.
* وينقلنا هذا الأمر وتلك المناسبة للحديث عن القانون الجديد للمرور.. فمما لا شك فيه أن القضية ليست مجرد نقص مواد قانونية أو تشريعية, إذ ليس معقولا أن القانون المعمول به حاليا يعجز عن ضبط الحالة المرورية, في حالة تطبيقية جيدا.. ولكن يبدو أن القانون الجديد يركز على مسألة جباية الغرامات أكثر من التركيز علي إيجاد حل للكوارث المرورية التي تلاحقنا وتحرجنا أمام سياح العالم. ومما يؤسف له أن هذا القانون يتعامل مع الحوادث المرورية علي أنها قدر لا مفر منه, ففرض على الجميع حمل مثلث فسفوري للتنبيه بوجود حادث أو عطل, وحقيبة إسعاف لعلاج المصابين!..
وهي بالمناسبة حقيبة بائسة لا تقدم ولا تؤخر ولا تصلح في طقس بلادنا الحار, ولا ينبغي أصلا أن يسمح لغير المختصين بالاقتراب من المصابين حتى لاتتفاقم الاصابة.. ولا بديل عن الإكثار من وتطوير وسائل الإسعاف لتسبق الجميع إلى أماكن الحوادث, ناهيك عن إيجاد السبل الكفيلة بمنع الحوادث أو التقليل منها, فالوقاية خير من العلاج. والمفروض أن قوانين المرور مصممة بالأساس لتعكس وتعبر عن البنية الأساسية المرورية بالطرق والشوارع.. وهذه البنية الأساسية هي الأساس الأول الذي ينبني عليه ضبط الحالة المرورية وتغريم المخالفين لقانون المرور. فكيف يعاقب شخص لأنه توقف في مكان ممنوع مثلا دون أن تكون هناك شاخصة أو لون أصفر على الرصيف يدل علي هذا المنع؟..
إننا للأسف لا نرى في بلادنا الشواخص العادية المنتشرة في أنحاء العالم والتي تحمل لافتات مثل: قف, أفسح الطريق, لليمين فقط, ممنوع الدخول... الخ. وعلى الرغم من أن أهم أسباب الأزمة المرورية هو كثرة السيارات المتوقفة بالشوارع بسبب النقص الحاد في أماكن الانتظار المعتمدة, والتي تخنق الحركة وتسبب الاحتكاك بين السيارات وتكثر من المشاجرات وتعطيل الحركة.. فلم يفكر أحد في أهمية وضرورة تحديد أماكن الانتظار برسم مستطيل أبيض في الأماكن المسموح بالانتظار فيها, وهذا يعني بالطبع أن الوقوف خارج هذه المستطيلات ممنوع ويؤدي إلى الغرامة.
ولقد غلظ القانون الجديد مثلا عقوبة السير في الاتجاه المخالف دون أن يسبق ذلك تجهيز بنية أساسية تبين بوضوح اتجاه السير رغم سهولة ذلك, ويستطيع أي مواطن بالتالي الطعن أمام المحكمة وإلغاء العقوبة.. وقد حدث أثناء فترة دراستي بالولايات المتحدة أن أوقفني شرطي المرور وسحب الرخصة لأنني لم أهديء السرعة في جزء من الشارع أمام مدرسة, وعندما وجدت أن الشاخصة المكتوب عليها هديء السرعة غير ظاهرة بسبب غصن شجرة واعترضت على هذه المخالفة استجاب الضابط على الفور وأعاد لي الرخصة, معتبرا أن الخطأ إداري, وأمر على الفور بتقليم الشجرة. ومشكلتنا في مصر أن البنية الأساسية غير جاهزة بل وغير صالحة لتطبيق قوانين مرورية حازمة تستطيع أن تعيد الانضباط إلى الشارع المصري. كما أن أفراد الشرطة المرورية غير مهيئين لفرض النظام, فقد رأينا في كل الدول التي سافرنا إليها أن الشرطي دائما موجود ويسبق الجميع في الوصول إلي مكان العطل أو الحادث,
ولمسنا جاهزية هؤلاء الأفراد في التعامل( تلقائيا) مع أية أحداث طارئة يمكن أن تؤدي إلي تعطيل المرور أو وقوع حوادث.. مثل تعطل سيارة بالطريق, أو تجمع مياه الأمطار, أو هبوب عاصفة ترابية, أو وجود ضباب كثيف, أو انقطاع التيار الكهربي عن الاشارات المرورية الضوئية... الخ. وبالطبع فليس مطلوبا أن يوجد شرطي مروري في كل شبر من أرض المحروسة, ولكن مطلوب أن يكون لدينا الشرطي المتحرك ( من تلقاء نفسه) للمراقبة وتخويف المخالفين والمستهترين..
وهناك إجراءات كثيرة تساعد على الرقابة الذاتية وتجعل من المواطن شرطيا اعتباريا إن وجدت التعليمات الواضحة التي تفضح المخالف, وقد سبق أن طالبنا مثلا بتحديد اتجاهات السير بالشوارع المتلاصقة ليصبح أحدها للذهاب والآخر للإياب (بتعليمات واضحة), وهذا من شأنه ضبط السير في هذه الشوارع دون الحاجة لوجود شرطي لأن المخطيء لن يجرؤ على المكابرة. لن ينضبط المرور وتقل الحوادث قبل تأسيس بنية تحتيه مناسبة, والأيام بيننا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق