عندما طرَحتُ في المقال السابق فكرة تخصيص قطعة أرض مجانية لكل أسرة بدلا من الصكوك الوهمية التي يُمنـّينا بها حزب الحكومة.. لم أتخيل قط ما فوجئت به من ردود فعل وتعليقات واستفسارات ومكالمات ورسائل تستفهم أو تؤيد وتشجع، مما يعكس عمق الأزمة التي يعيشها الشعب المصري المتعطش لحياة كريمة يستحقها؛ وهي حياة ليست مستحيلة، بل في متناول يده لولا الفساد الذي يحول بينه وبينها. وقد طلب مني الكثيرون توضيحا أكبر لفكرة هذا المشروع الحلم الذي يراه كثيرون حلما بعيد المنال.. إما لأن المتحكمون في مصائرنا لن يسمحوا بمجرد التفكير فيه- لأسباب معروفة، وإما لأنه مشروع ضخم يحتاج إلى استثمارات كبرى يصعب تدبيرها. وبداية نطمئن الحالمين- المتخوفين من صعوبة الأمر- أن مصر ليست فقيرة، بل إنها من أغنى دول المنطقة.. والسبب في عدم استمتاع الشعب بخير مصر وثروتها ومكانتها ليس (كذبة) الفقر التي تتردد دوما، وإنما سوء توزيع الثروة، واستبعاد الكفاءات والخبرات الوطنية من مواقع اتخاذ القرار، لذا فليس مستغربا ما نعانيه من بؤس وتخلف؛ نسهم نحن في استمراره- للأسف- بالاستسلام للأمر الواقع.
ومن حيث المبدأ؛ فليس هناك من شك أن امتلاك قطعة أرض- في صحراء مهملة تاريخيا- لتعميرها واقتناء بيت آدمي يعيش فيه الإنسان المصري المالك الأصلي لكل أرض الوطن.. حق مقدس ليس لأحد أيا كان عرقلته أو الحد منه أو حتى وضع شروط عليه. وإذا كانت الحكومة تزعم أنها تفكر جديا في تمليك أفراد الشعب أسهما فيما تبقى من تركة القطاع العام.. و(بافتراض) حسن النية؛ فنحن نقول لأقطاب الحكومة وفروا على أنفسكم هذا الكرم الحاتمي واتركوا الشركات وشأنها.. ليس فقط لأن هذه خطوة غير مأمونة العواقب، و(ثروة مفترضة) غير مضمونة، ويستحيل تحقيق العدالة في توزيعها نظرا لتباين الشركات وأنشطتها.. ولكن لأن المشروع البديل الذي نعرضه يمنح المواطن ثروة حقيقية مباشرة تغنيه وتوسع عليه وتحل كل المشكلات المترتبة على أزمة الإسكان المفتعلة، وهي أغلب مشكلات مصر. ومشكلة الأراضي الفضاء سواء الصالحة للزراعة أو للبناء مشكلة كبيرة ومخجلة؛ تفاقمت بسبب السياسات الفاسدة في التوزيع، فنجد مثلا أراضٍ مخصصة للزراعة وقد قسِّمت إلى قطع مقدارها خمسة أفدنة، وتم إمدادها بالمياه والكهرباء، وأنشئ في كل منها بيت ريفي.. إلى هنا والأمر أكثر من ممتاز، ولكن تأتي الخطوة التالية المفجعة عند توزيعها، إذ لم توزع على المزارعين المحتاجين أو على الشباب الذي يعاني البطالة، ولكن على الواصلين من أعضاء حزب الحكومة وأقاربهم غير المحتاجين، والبعيدين تماما عن الزراعة وخبرتها أو حتى الرغبة فيها، وللأسف فأغلبهم من محافظة واحدة بعيدة جدا عن هذه الأراضي. وكانت النتيجة بالطبع ترك أغلبها دون زراعة انتظارا لارتفاع ثمنها وبيعها.. وعندما تصل في النهاية للمستحقين الحقيقيين لها، الجديرين بها، تصل إليهم بثمن غالٍ، حيث يقوم كثيرون من المزارعين الحقيقيين بالمحافظات ببيع ما يملكون من أراض زراعية محدودة المساحة بقراهم لشراء مساحة أكبر بهذه الأراضي الصحراوية، وبذلك يكون الثمن قد دُفع ممن يستحق لمن لا يستحق!. أما عن أراضي البناء بالمدن الجديدة وما حولها فحدث ولا حرج؛ والرائحة تزكم الأنوف ويعرفها القاصي والداني.. والخلاصة أنها اعتبرت مصدرا للتربح وتكوين ثروات من لا شيء. وأعرف صديقا ذهب ليشتري قطعة أرض بمدينة العبور من أحد المواطنين، وفوجئ بأنه يمتلك عدة قطع؛ كلها معروضة للبيع وأنه (لا يعرف مكانها) وضاع اليوم في البحث عن مكان أي منها!. وقد أدت سياسة التسقيع والاحتكار والمضاربة إلى إحداث طفرة غير معقولة ولا مبررة لثمن متر الأرض. فليس معقولا أن يصل ثمن المتر الواحد إلى آلاف الجنيهات في دولة مساحتها (مليون كيلومتر مربع) أغلبها فضاء مهمل وغير مستغل!.
وينقلنا هذا الأمر للحديث عن المدن الجديدة، وهي بلا شك كانت فكرة جيدة عموما، رغم عدم التوفيق في اختيار مواقعها.. إذ كان ينبغي غزو الصحراء بعيدا عن العاصمة المثقلة بملايينها العشرين، وكان ينبغي أيضا تشجيع الناس للانتقال إلى هذه المدن، ولكن ما حدث للأسف أن الأراضي (والشقق والفيلات) في هذه المدن الجديدة منحت لغير المحتاجين (من الأثرياء والواصلين!)، وكان هذا سببا كافيا لبقاء تلك المدن فارغة مهجورة لا إقبال على السكن فيها لأن المحتاجين الحقيقيين لا يقدرون على دفع الثمن غير الواقعي لوحداتها السكنية.. والملاك الحاليون أغلبهم يعيش في أرقى أحياء القاهرة وغيرها وتملكوا بهدف التجارة وتحقيق الثروة (مستقبلا)، أو يتركونها للزمن أو للأحفاد، لذا فليس متوقعا أن يتم تعميرها قريبا رغم كل ما أنفق عليها. ولنتصور ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن فرصة السكن في هذه المدن قد منحت لمن لا يملك شقة للزواج أو من يعيش في غرفة أو مقبرة .. الخ؛ هل كانت تبقى مهجورة هكذا؟!.
إن مشكلتنا المستعصية الحقيقية التي تعوق أي إصلاح أو تنمية ليست في الزيادة السكانية كما يدَّعون، فالثروة البشرية كلـّها خير إن نـُظر إليها كطاقة إنسانية يمكن توظيفها والاستفادة منها، وأمامنا اليابان والصين وحتى الهند كأمثلة.. ولكن المشكلة تتبلور في الكثافة السكانية العالية، فقد وسَّع الله تعالى علينا من أرضه الواسعة؛ ولكننا ضيقنا على أنفسنا بالتمركز في وادٍ ضيقٍ لا يمكن أن يتحمل الزيادة السكانية رغم ما اقترفناه في حق أنفسنا وحق الأجيال القادمة بترك الصحراء واستهلاك الأرض الزراعية- مصدر غذائنا- في بناء البيوت.. هل هناك حُمق أكثر من هذا؟!!. ومشكلة الكثافة العالية تحاصرنا في كل مكان؛ حيث الازدحام الخانق في كل شيء وكل مكان، وصار من المستحيل أن تقضي مصلحة بسيطة في وقت معقول رغم استخدام الحاسوب في أغلب المصالح، وفـُتح الباب بالتالي للرِّشا بطريقة وبائية، وفي كل مكان تقريبا، لأن من لا يملك الوقت لابد- في هذه الأيام- أن يلوث يده بالرشوة ليرحم نفسه من الزحام ووقف الحال. ليس معقولا إذاً أن يبقى الحال هكذا على ما هو عليه، فالانفجار واقع لا محالة، ولا ندري متى أو كيف.. ولكن الأمر جد خطير وينبغي التفكير بطريقة عقلانية لإنقاذ الوطن من كوارث مؤكدة بدأت نذرها بكثرة الحوادث التي تفشل الحكومة في السيطرة عليها أو حتى في التعامل معها أو في تقليل خسائرها، وأمامنا- على الأقل- مأساة الحالة المرورية المستعصية على الحل لأنه ببساطة (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). والحل الناجع لن يكون بالطبع في حكاية الصكوك هذه التي تتردد حاليا.. فهذه وبافتراض صدق التصريحات المتوالية لن تزيد عن مسكنات مؤقتة لن تحل أية مشكلة.
أما عن مشروع (الإنقاذ) الذي ندعو إليه كبديل لمشروع الصكوك؛ فليس المقصود منه إضافة عدد من المدن الجديدة على غرار المدن المهجورة الحالية.. ولكننا ندعو لتخطيط (مصر جديدة) تمتد في عمق الصحراء على هيئة شبكة من المدن الكبيرة والمتوسطة والصغيرة بمحاذاة المدن القديمة لتكون أقرب لكل محافظة، وأهم عوامل النجاح لهذا المشروع هي حماس الشعب المصري لتحسين أوضاعه الاجتماعية والمعيشية. فمنح كل مواطن مساحة مئتي متر بحد أقصى ألف متر للأسرة، هدية من الدولة دون مقابل، يفتح الباب لغزو الصحراء لأن أغلب الشعب الآن يعيش في حالة ضيق وضنك، وينظر الناس إلى تملك قطعة أرض (في ظل الأرقام الفلكية الحالية) على أنه حلم بعيد المنال- فماذا لو تحقق هذا الحلم فجأة ودون عناء؟. ونظرا لأن خطوة كهذه سوف تخفض سعر الأرض إلى حوالي مئة جنيه فقط للمتر؛ فمعنى ذلك أن كل فرد من أفراد الشعب سوف يحصل على ما لا يقل عن عشرين ألف جنيه (مئة ألف جنيه للأسرة)، وهذا رقم خيالي بالنسبة لأغلب المصريين، ويمكن أن يُحدث طفرة معمارية كبيرة ونشاطا اقتصاديا يؤدي إلى إعادة توزيع الثروة، إن تم تسهيل التصرف في هذه الأرض بالبناء عليها أو بالبيع أو البدل .. الخ. فكل من لديه مال (تحت البلاطة) سوف يوسع على نفسه وينتقل لمدينة جديدة، ويبيع سكنه الحالي لغيره.. ويمكن بالتالي- بعد فترة من الزمن- أن تنخفض الكثافة السكانية بالمدن القديمة إلى النصف. ولكن هذه المدن الجديدة المستهدفة لن يكون لأرضها ثمن يُحدث هذا النشاط الاقتصادي والمعماري ما لم تخطط جيدا ويتم تدبير بنيتها الأساسية. وكما قلنا في المقال السابق فمن السهل إسناد هذه المهمة للقطاع الخاص إن خططت هذه المدن بطريقة مُغرية (مراكز تجارية عصرية، مناطق صناعية حديثة، مرافق صحية وتعليمية وترفيهية خاصة.. الخ)، بالإضافة إلى مساهمة الملاك الجدد من المواطنين المتحمسين المُمْتـَنـِّين، المتطلعين لحياة كريمة. وبالطبع فنحن ندرك أن العيب الوحيد في هذا المشروع هو اصطدامه المؤكد بمملكة المضاربين والمحتكرين الذين أثروا ثراء فاحشا من استغلال الأزمة السكنية المفتعلة، لأنه يسحب البساط من تحت أرجلهم ويعصف بسلعتهم التي يكتوي بها الشعب المصري.. وهؤلاء لا شأن لنا بهم لأن أغلبهم حصل على هذه الأراضي في غفلة من الزمن دون وجه حق، ويكفيهم ما حصلوا عليه، والتيار الشعبي يمكن أن يجرف المستغلين، وتعود مصر إلى وضعها المتميز بعد حين. والكرة الآن في ملعب الحكومة التي تدعي السعي لزيادة دخل الشعب، وهذا المشروع يحقق الغرض دون أن يكلفها شيئا. وقد لخصنا بعض فوائد المشروع الأخرى بالمقال السابق.. ويمكن مراجعتها لمن لم يقرأ المقال على:
http://old.almesryoon.com/Archive/ShowDetailsC.asp?NewID=57113&Page=7
abdallah_helal@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق