مصر.. من هبة النيل إلى هبة "المجاري"!
بقلم د. عبد الله هلال
(المصريون) : بتاريخ 13 - 10 - 2009
عُرفت مصر على مر العصور بأنها هبة النيل العظيم.. ووصفها الخالق سبحانه وتعالى في العديد من آيات كتابه الكريم بالمواصفات التي تؤيد هذه المقولة: فهي خزائن الأرض كما قال سيدنا يوسف (اجعلني على خزائن الأرض..)، وهي أرض الجنات والعيون والزروع التي حُرم منها فرعون وقومه لكفرهم (كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين..)، وهي موطن الأغذية المحببة للإنسان.. فعندما لم يصبر قوم نبي الله موسى على طعام واحد وطالبوه أن يدعو الله ليخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم..)، وعندما وصل إليها سيدنا يوسف بعد أن باعه إخوته قال الله تعالى (وكذلك مكنا ليوسف "في الأرض"..). فمصر النيل هي الأرض المعطاءة الخصبة التي تتميز بالخصوبة وجودة المنتجات الزراعية. ويدرك ذلك جيدا من سافر إلى خارج مصر ورأى وتذوق الفواكه والخضراوات في الدول الأخرى، التي لا يمكن مقارنتها مطلقا بالمنتجات المصرية رغم الإهمال التاريخي الرسمى للزراعة والمزارعين، وعدم وجود "خطة" للاستفادة من تلك المزايا. وليس هناك شك في أن هذه الخيرات التي وهبها الله تعالى لمصر وأهلها، جاءت عن طريق مياه النيل بعذوبتها وطميها، إلى جانب الفلاح المصري الأمين والمثابر. فمياه النيل إذاً هي حياتنا ومستقبلنا، والحفاظ عليها وعلى نقائها والاقتصاد في استهلاكها يجب أن يكون الأولوية الأولى للسياسة الرسمية.
فهل السياسة الحكومية كانت يوما رشيدة في التعامل مع النيل؟.. للأسف لا، فالحكومة لم تفعل شيئا يذكر لمنع تلوث مياه النيل أو حتى إزالة التلوث أو تقليله، ولم تفكر يوما في وضع سياسة لترشيد استهلاك المياه وإنشاء نظم متطورة للري تستفيد من العلوم والتقنيات الحديثة، بل شجعت سياسة التوزيع غير العادل للمياه بحرمان الفلاحين البسطاء وهم المنتجون الحقيقيون؛ لصالح المنتجعات وملاعب الجولف وملاك المساحات الكبيرة الذين استولوا على أراضي الدولة بتراب الفلوس، وهي أراض صحراوية تصعب زراعتها وتستهلك مياها كثيرة. وكانت النتيجة المؤسفة هي حرمان أراضي الدلتا القديمة المنتجة من المياه، التي لم تعد تصل مطلقا إلى نهايات الترع والقنوات.. لدرجة أن هذه الشبكة التاريخية- التي أنشأها محمد على وحافظ عليها المزارعون رغم غياب سياسة حكومية لتطويرها- بدأ بعضها يُردم ويختفي بسبب الجفاف الذي أصابها في هذا الزمن الرديء!. ماذا يفعل المزارعون وقد غابت عنهم المياه؟.. هل يجلس الفلاح على رأس أرضه البور ويضع يده على خده ويقول (النيل ما جاش)؟!.. وإذا فعل ذلك فمن أين يأكل هو وأولاده؟. لقد أدت هذه السياسة الفاسدة إلى أخطر نتيجة وهي اضطرار المزارعين لري أراضيهم من مياه الصرف المتوافرة بالمصارف. وهذه المياه لا تصلح بالطبع للزراعة، ولكن الأخطر من ذلك أنها ليست فقط مياه صرف زراعي.. فالقرى المصرية كما هو معروف مهملة تاريخيا ولا توجد بها شبكات للصرف الصحي، واضطر الناس لإنشاء شبكات بدائية بالجهود الذاتية تصب في هذه المصارف دون معالجة. لذا فمياه الري الحالية التي نأكل من إنتاجها ليست مياه النيل العظيم، وليست مياه أصلا وإنما مياه (المجاري) بما فيها من تلوث وقذارة.. ليتغير شعار مصر هبة النيل إلى مصر هبة المجاري!. لو أن لدينا حكومة رشيدة تحرص على صحة شعبها لحافظت على مصدر حياة المصريين واهتمت بالنيل وطورت نظم الري، أو على الأقل لقامت بإنشاء نظم بديلة للاستفادة من المياه الجوفية لتعويض المياه التي سرقت من الفلاحين، وفي أسوأ الأحوال كان يمكنها إنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي قبل إفراغها في المصارف الزراعية.
لقد كشفت هذه الكارثة عن الغياب التام لأجهزة الرقابة على المواد الغذائية.. إذ ليس هناك شك أن المنتجات الزراعية المنتجة من الأراضي المروية بمياه الصرف ملوثة وغير مطابقة للمواصفات ولا تصلح للاستهلاك الآدمي. فأين هي المواصفات وأين الرقابة وأين معامل التحليل واين الدولة نفسها؟.. لماذا لم نسمع عن (ضبط) مواد غذائية ملوثة؟!.. هل أجهزة الرقابة تعمل وتعلم بالكارثة والحكومة تمنعها من الإعلان عنها؟.. أم أنها أجهزة ورقية لا تعمل والحكومة سعيدة بذلك؟. كيف يميز المواطن بين منتجات الأراضي (القليلة) التي لم تحرم من مياه النيل وبين منتجات مياه الصرف؟.. هل مطلوب من المواطن أن يحمل معه معملا صغيرا للتحليل الكيميائي وهو ذاهب إلى السوق لكي يختبر ويتجنب المنتجات الملوثة؟!. بالله عليكم أجيبونا: مالكم؟ كيف تحكمون؟!. إن ألف باء السياسة الرشيدة أن نستخدم الأسلوب العلمي في دراسة مشكلاتنا وإيجاد الحلول لها.. فإن اضطرت الدولة لاستخدام مياه الصرف لعمليات الري (وهذا غير منطقي وغير وارد في بلد النيل) كان لابد أولا من تجريب الزراعة بهذه المياه في حقل تجريبي، ثم اختبار منتجات هذا الحقل بالتحليل الكيميائي، ومن ثم نقرر هل يسمح باستخدام هذه المياه في الري؟، أم أنها تحتاج لمعالجة معينة لكي تصلح للزراعة؟، أم تصلح لأنواع من المزروعات دون أخرى؟، أم لا تصلح إطلاقا ويجب منع الري بها مع سرعة توفير بدائل؟. هذا هو واجب الحكومة دون غيرها، والمفروض أن هناك أجهزة قائمة للقيام بذلك تلقائيا دون انتظار حدوث كارثة لكي نتحرك.. ولدينا العديد من مراكز البحوث وأجهزة الرقابة، فلماذا لا تعمل هذه الأجهزة: هل هي الغيبوبة الحكومية التي لا تفيق الدولة منها إلا عند وقوع كارثة؟.. أم أنهم يقِظون (كما يدّعون) ويعلمون بالأمر ولكنهم سعداء بذلك مادام طعامهم يأتي من خارج البلاد؟!!. يجب وقف هذه الفضيحة فورا وتجريم استخدام مياه الصرف لري الأراضي الزراعية، خصوصا بعد تواتر الأنباء العلمية الطبية عن إصابة 32% من أطفال مصر بالتقزم بسبب مزروعات المجاري. ونقدم لوزير الري حلا بديلا "مؤقتا" لحين إعادة النظر في توزيع مياه النيل وترشيد استهلاكها بتطوير نظم الري.. وهو إنشاء مضخات لإمداد الترع التي لا تصل إليها مياه النيل بالمياه الجوفية.
إن هذه المشكلة خطيرة خطيرة.. وإذا أضفنا إليها مشكلة اضطرار الكثيرين من ملاك الأراضي الزراعية إلى تبوير الأراضي بتعمد عدم زراعتها بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج نتيجة لندرة المياه وارتفاع أجور العمال وانخفاض أسعار المحاصيل، لأدركنا أن مصر النيل والخير مقبلة على مجاعة بسبب سوء أو انعدام التخطيط. فهل من قارئ مسئول يفهم ويدرك خطورة الأمر؟... هل من مجيب؟!.
abdallah_helal@hotmail.com
فهل السياسة الحكومية كانت يوما رشيدة في التعامل مع النيل؟.. للأسف لا، فالحكومة لم تفعل شيئا يذكر لمنع تلوث مياه النيل أو حتى إزالة التلوث أو تقليله، ولم تفكر يوما في وضع سياسة لترشيد استهلاك المياه وإنشاء نظم متطورة للري تستفيد من العلوم والتقنيات الحديثة، بل شجعت سياسة التوزيع غير العادل للمياه بحرمان الفلاحين البسطاء وهم المنتجون الحقيقيون؛ لصالح المنتجعات وملاعب الجولف وملاك المساحات الكبيرة الذين استولوا على أراضي الدولة بتراب الفلوس، وهي أراض صحراوية تصعب زراعتها وتستهلك مياها كثيرة. وكانت النتيجة المؤسفة هي حرمان أراضي الدلتا القديمة المنتجة من المياه، التي لم تعد تصل مطلقا إلى نهايات الترع والقنوات.. لدرجة أن هذه الشبكة التاريخية- التي أنشأها محمد على وحافظ عليها المزارعون رغم غياب سياسة حكومية لتطويرها- بدأ بعضها يُردم ويختفي بسبب الجفاف الذي أصابها في هذا الزمن الرديء!. ماذا يفعل المزارعون وقد غابت عنهم المياه؟.. هل يجلس الفلاح على رأس أرضه البور ويضع يده على خده ويقول (النيل ما جاش)؟!.. وإذا فعل ذلك فمن أين يأكل هو وأولاده؟. لقد أدت هذه السياسة الفاسدة إلى أخطر نتيجة وهي اضطرار المزارعين لري أراضيهم من مياه الصرف المتوافرة بالمصارف. وهذه المياه لا تصلح بالطبع للزراعة، ولكن الأخطر من ذلك أنها ليست فقط مياه صرف زراعي.. فالقرى المصرية كما هو معروف مهملة تاريخيا ولا توجد بها شبكات للصرف الصحي، واضطر الناس لإنشاء شبكات بدائية بالجهود الذاتية تصب في هذه المصارف دون معالجة. لذا فمياه الري الحالية التي نأكل من إنتاجها ليست مياه النيل العظيم، وليست مياه أصلا وإنما مياه (المجاري) بما فيها من تلوث وقذارة.. ليتغير شعار مصر هبة النيل إلى مصر هبة المجاري!. لو أن لدينا حكومة رشيدة تحرص على صحة شعبها لحافظت على مصدر حياة المصريين واهتمت بالنيل وطورت نظم الري، أو على الأقل لقامت بإنشاء نظم بديلة للاستفادة من المياه الجوفية لتعويض المياه التي سرقت من الفلاحين، وفي أسوأ الأحوال كان يمكنها إنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي قبل إفراغها في المصارف الزراعية.
لقد كشفت هذه الكارثة عن الغياب التام لأجهزة الرقابة على المواد الغذائية.. إذ ليس هناك شك أن المنتجات الزراعية المنتجة من الأراضي المروية بمياه الصرف ملوثة وغير مطابقة للمواصفات ولا تصلح للاستهلاك الآدمي. فأين هي المواصفات وأين الرقابة وأين معامل التحليل واين الدولة نفسها؟.. لماذا لم نسمع عن (ضبط) مواد غذائية ملوثة؟!.. هل أجهزة الرقابة تعمل وتعلم بالكارثة والحكومة تمنعها من الإعلان عنها؟.. أم أنها أجهزة ورقية لا تعمل والحكومة سعيدة بذلك؟. كيف يميز المواطن بين منتجات الأراضي (القليلة) التي لم تحرم من مياه النيل وبين منتجات مياه الصرف؟.. هل مطلوب من المواطن أن يحمل معه معملا صغيرا للتحليل الكيميائي وهو ذاهب إلى السوق لكي يختبر ويتجنب المنتجات الملوثة؟!. بالله عليكم أجيبونا: مالكم؟ كيف تحكمون؟!. إن ألف باء السياسة الرشيدة أن نستخدم الأسلوب العلمي في دراسة مشكلاتنا وإيجاد الحلول لها.. فإن اضطرت الدولة لاستخدام مياه الصرف لعمليات الري (وهذا غير منطقي وغير وارد في بلد النيل) كان لابد أولا من تجريب الزراعة بهذه المياه في حقل تجريبي، ثم اختبار منتجات هذا الحقل بالتحليل الكيميائي، ومن ثم نقرر هل يسمح باستخدام هذه المياه في الري؟، أم أنها تحتاج لمعالجة معينة لكي تصلح للزراعة؟، أم تصلح لأنواع من المزروعات دون أخرى؟، أم لا تصلح إطلاقا ويجب منع الري بها مع سرعة توفير بدائل؟. هذا هو واجب الحكومة دون غيرها، والمفروض أن هناك أجهزة قائمة للقيام بذلك تلقائيا دون انتظار حدوث كارثة لكي نتحرك.. ولدينا العديد من مراكز البحوث وأجهزة الرقابة، فلماذا لا تعمل هذه الأجهزة: هل هي الغيبوبة الحكومية التي لا تفيق الدولة منها إلا عند وقوع كارثة؟.. أم أنهم يقِظون (كما يدّعون) ويعلمون بالأمر ولكنهم سعداء بذلك مادام طعامهم يأتي من خارج البلاد؟!!. يجب وقف هذه الفضيحة فورا وتجريم استخدام مياه الصرف لري الأراضي الزراعية، خصوصا بعد تواتر الأنباء العلمية الطبية عن إصابة 32% من أطفال مصر بالتقزم بسبب مزروعات المجاري. ونقدم لوزير الري حلا بديلا "مؤقتا" لحين إعادة النظر في توزيع مياه النيل وترشيد استهلاكها بتطوير نظم الري.. وهو إنشاء مضخات لإمداد الترع التي لا تصل إليها مياه النيل بالمياه الجوفية.
إن هذه المشكلة خطيرة خطيرة.. وإذا أضفنا إليها مشكلة اضطرار الكثيرين من ملاك الأراضي الزراعية إلى تبوير الأراضي بتعمد عدم زراعتها بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج نتيجة لندرة المياه وارتفاع أجور العمال وانخفاض أسعار المحاصيل، لأدركنا أن مصر النيل والخير مقبلة على مجاعة بسبب سوء أو انعدام التخطيط. فهل من قارئ مسئول يفهم ويدرك خطورة الأمر؟... هل من مجيب؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق