http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=24404
http://www.el-wasat.com/details.php?id=55575865
http://www.el-wasat.com/details.php?id=55575865
عام (2011).. العام العالمي للكيمياء
بقلم د/ عبد الله هلال
وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مبادرة الاتحاد الأفريقي للجمعيات الكيميائية (FASC)، والتي تبناها الاتحاد الدولي للكيمياء (IUPAC)، باعتبار عام 2011 العام العالمي للكيمياء. وسوف تنطلق فعاليات الاحتفال بهذا العام من منظمة اليونسكو بباريس يوم 24 يناير 2011. وقد يتعجب البعض من اختيار الهيئات الدولية لعلم الكيمياء بالذات، من بين العلوم كلها، لينال هذا الاهتمام الدولي.. وليحظى بالتعريف والاحتفاء به عالميا على مدار عام كامل. والحقيقة ألا مجال للتعجب؛ فالكيمياء علم أساسي تنبني عليه الكثير من العلوم الأخرى مثل العلوم الطبية والصيدلية والزراعية والهندسية والبيئية.. الخ. وعلم الكيمياء يكاد يكون هو العلم الوحيد الذي يلمسه الإنسان العادي ويشعر به في حياته اليومية، إذ إن كل شيء حولنا ما هو إلا نتاج تفاعلات كيميائية. ويصعب تخيل شكل الحياة على وجه الأرض لو لم يوجد علم الكيمياء: فهل كان يمكن مثلا أن نرى طائرة، سيارة، صاروخ؟.. هل كانت توجد كتب وصحف؟.. هل كنا نسمع عن أجهزة الحاسوب والإذاعة المسموعة والمرئية؟.. هل كان يمكن أن توجد ناطحات سحاب ومركبات فضائية؟. بل هل كان يمكن أن نجد مياها نقية، أو أن نضاعف إنتاج المحاصيل الزراعية، أو أن نرتدي ملابس جميلة بألوان متنوعة، أو أن نجد دواء لأمراضنا؟. إذا نظرنا حولنا فلن نجد شيئا لا يعود في أصله إلى علم الكيمياء.
ما هو علم الكيمياء؟، وإلى أي مدى يسهم في حياتنا وثقافتنا ورفاهيتنا وأنماط معيشتنا؟. إذا أمعنا النظر فيما يدور حولنا نجد مثلا أن الحديد يصدأ، والوقود يحترق، والنبات ينمو.. مجموعة من المواد الكيماوية تتحول بقدرة الخالق إلى مجموعة أخرى من المواد الكيماوية. الكيمياء هي العلم الذي يختص بهذه التحولات.. وهذه التحولات ما هي إلا تفاعلات كيميائية؛ بدونها تتحول الأرض إلى كوكب عديم الفائدة. فالنبات مثلا يأخذ ثاني أكسيد الكربون من الهواء ويحصل على الماء من التربة وعلى الطاقة من ضوء الشمس لينتج لنا مواد غذائية خلال سلسلة عجيبة من التفاعلات الكيميائية تعرف بالتخليق الضوئي. كل العمليات الحيوية التي تدور داخل أجسام الكائنات الحية ما هي إلا تفاعلات كيميائية. كل الأشياء التي نستخدمها، نركبها، نلبسها، نعيش فيها... أنتجت من خلال تفاعلات كيميائية. لذا فمجال عمل الكيميائي هو تصميم التفاعلات الكيميائية التي تحول المواد الموجودة حولنا إلى مواد أخرى تخدم احتياجاتنا. فمثلا؛ الحاسبات والأجهزة الدقيقة تحتاج إلى ترانزستور السِّـلِكون، ولكن السلكون ليس موجودا هكذا بالطبيعة.. الموجود هو السِّلِكا، على هيئة رمال تملأ الصحراء، والكيميائي هو الذي يحول السلكا إلى عنصر السلكون. والمريض يحتاج إلى مادة كيميائية فعاله للعلاج.. وهذه المادة غير موجودة بالطبيعة، فيقوم الكيميائي بتخليقها. الإنسان في حاجة إلى طلاء يمنع به صدأ المعادن أو لدهان حوائط بيته وأثاثه بالألوان التي تضفي عليه البهجة والسعادة.. وفي حاجة إلى مواد لتغليف أسلاك الكهرباء حتى لا تصعق من يلمسها.. وفي حاجة إلى أدوية وأسمدة ومنظفات ومواد بناء وأفلام وأشرطة وبطاريات... كل هذه الأشياء لا تنتج إلا من خلال علم الكيمياء. لقد لعبت الكيمياء دورا حيويا في مضاعفة إنتاج الغذاء لمواجهة الزيادة السكانية العالمية، وللحصول على مصادر جديدة للطاقة، وللإمداد بمواد متجددة لمواجهة تضاؤل ونفاد الخامات الطبيعية، ولكسو وإسكان الإنسان، ولتحسين الصحة ومحاصرة الأمراض، ولحماية البيئة..... الخ.
هذه الصورة المشرقة لعلم الكيمياء لم تمنع بعض وسائل الإعلام وعامة الناس من غير المتخصصين من رسم صورة مشوهة لهذا العلم باعتبار أنه السبب في تلوث البيئة الذي يهدد حياة الإنسان، وفي عنف ولا إنسانية الحروب الحديثة على أساس أن القنابل (التقليدية والنووية) والصواريخ والذخائر العسكرية القذرة كلها منتجات كيميائية. ولا شك أن هذا ظلم كبير لعلم الكيمياء.. فالتلوث سببه الإنسان بجشعه وإسرافه وإهماله، وعلم الكيمياء مثل غيره من العلوم مجرد أداة يمكن استخدامها في الخير أو في الشر.. والحروب وآلياتها وجدت مع وجود الإنسان وقبل ظهور علم الكيمياء. أما الصورة الأخطر التي ألصقت بعلم الكيمياء وتهدد بتقهقره وبالتالي تقهقر الحياة المدنية المتحضرة التي نعيشها؛ فهي ما يشاع دوما ودون حق عن صعوبته.. مما جعل الطلاب يفرون من تعلمه. ومعروف أن الصعوبة والسهولة أمر نسبي يعتمد على مدى حب الإنسان أو كرهه للعلم الذي يدرسه، وهذا بدوره يعتمد على مستوى المعلم وعلى ما يتوفر بالمدارس والجامعات من إمكانات ووسائل لتجسيد النظريات والقوانين وتقريبها إلى أذهان الطلاب، كما يعتمد على لغة التعليم وهل هي اللغة الأم التي يسهل فهمها بالسرعة اللازمة أم لغة أجنبية تشكل عائقا بين الطالب والعلم. ونظرا لأن التعليم المثالي لعلم الكيمياء بالذات- خصوصا الجانب العملي التجريبي- يحتاج إلى إمكانات وميزانيات باهظة، فقد أدى الارتفاع الجنوني لأسعار الأجهزة العلمية والكيماويات مع ضعف التمويل للجامعات، والمساواة غير الرشيدة بين أقسام الكيمياء وغيرها في الميزانية، بالإضافة إلى استخدام اللغة الإنجليزية في التعليم.. أدى إلى تخريج جيل من معلمي الكيمياء دون المستوى، ليقوم هؤلاء دون وعي أو قصد بترسيخ الفكرة المضللة عن صعوبة علم الكيمياء وزيادة كراهية الطلاب له.
بالإضافة إلى ما سبق.. وعلى الرغم من أهمية علم الكيمياء كما أسلفنا، فقد بدأ هذا العلم المركزي يواجه أزمة جديدة قد تؤثر على وجوده وبالتالي على المنافع التي تعود على الحياة الحديثة منه. فقد بدأ العديد من المهتمين بعلم الكيمياء في السنوات الأخيرة يدقون أجراس الخطر.. محذرين من عدم إمكانية استمرار هذا العلم بصورته الحالية. فعلم الكيمياء يقف اليوم على مفترق طرق.. وهو مرشح لأن ينقسم وينشطر إلى عدد من التخصصات التي بانعزالها عن الكيمياء الأم يسهل استقطابها إلى علوم معرفية أخرى، وبالتحديد إلى علمي الأحياء والفيزياء. فقد أدى الاتجاه العلمي المعاصر إلى إنشاء فرعين علميين رئيسين: التقنية الحيوية الذي يهيمن عليه ظاهريا علم الأحياء الجزيئية، وعلم المواد متناهية الصغر nanotechnology، حيث الكلمة العليا فيه لعلمي الفيزياء والهندسة. وهكذا وبعد عدة قرون من تفاخر الكيميائيين بأن علمهم هو العلم المركزي في منظومة العلوم المتشعبة، ومع تزايد النزعة العلمية الجديدة للاتجاه إلى نظام العلوم متعددة المعارف multidisciplinary؛ فقد بدأوا يشعرون بالقلق حول مستقبل الكيمياء كتخصص علمي أساسي فاعل ومترابط. ذلك أن هذه السياسة التعليمية من شأنها أن تنتج أقساما كيميائية جامعية هزيلة ومبتسرة وفقيرة في التجهيزات العلمية- إلا لمجال أبحاث محددة- وتعاني من مناهج علمية سطحية وغير متطورة.. لأن اهتمامات مخططي ومنظري التعليم الكيميائي الجديد سوف تكون منصبة بالدرجة الأولى على خدمة أطراف معرفية خارجية مع إهمال متوقع لبقية مجالات الكيمياء الأساسية والتطبيقية. وبعبارة أخرى فإن أغلب مجالات الكيمياء التي لا ترتبط بمجالات التقنية الحيوية وتقنية المواد متناهية الصغر سوف تعاني من فقر مادي وعلمي وبحثي. أما الجانب الآخر الذي يثير القلق على مستقبل الكيمياء فهو صراع الوجود للأسف.. إذ بدأت تنشأ ظلال من الشك في إمكانية بقاء المؤسسات والمعاهد الكيميائية ذاتها.. فالعديد منها حتى في الدول المتقدمة- ولأسباب مادية بحتة- تواجه مشكلات وصراعات، ليس لتحقيق تطور وتقدم في الأبحاث والإنتاج العلمي، ولكنه صراع لضمان البقاء وعدم الإغلاق حتى ولو كانت مجرد أقسام تعليمية. وغني عن البيان أن تزايد عداد أقسام الكيمياء التي تغلق أبوابها خصوصا في الدول الغربية، التي هي عصب ومركز تقدم العلوم، سوف يؤثر على مستقبل علم الكيمياء وبالتالي مستقبل التقدم البشري.
وعموما فنحن في مصر ليست لدينا هذه النزعة المادية التي ربما تتسبب في إغلاق الكثير من أقسام الكيمياء.. فهل لنا أن نحلم- بمناسبة العام العالمي للكيمياء- بانطلاقة اقتصادية تقود أمتنا إلى مكانها الطبيعي بين الأمم المتقدمة؛ يكون أساسها توظيف علم الكيمياء، والاستفادة من آلاف الكيميائيين الذين سهرت مصر على تعليمهم؟. إن بلادنا غنية بالخامات الطبيعية، وبالسواعد القوية والعقول المبدعة من علماء وخبراء الكيمياء، وغنية أيضا بموقعها وأشقائها الذين ينتظرون منها أن تمدهم باحتياجاتهم، فهي أَوْلى من الغريب البعيد. إن هذا الحلم يجب- ويسهل- أن يتحقق.. ولكي يتم ذلك فلابد من الاهتمام بالكيميائيين، جنود النهضة وسواعد التقدم، بداية بتطوير مناهج تعليم الكيمياء وتوجيه الطلاب إلى التخصصات التي تناسب خطط التنمية المستهدفة، ومرورا بالاهتمام ببيئة العمل وتوفير سبل الوقاية من أخطار الكيماويات، وتوفير الرعاية الصحية اللازمة لأولئك الذين يتعرضون لأذى الكيماويات بما فيها من سام وحارق ومشع ومتفجر ومسبب للسرطان، وانتهاء بحصولهم على حقوقهم المادية. إن مهنة الكيميائي هي أخطر مهنة، ودوره في تقدم الوطن والإنسانية هو أهم دور.. ولقد حان الوقت لصدور قانون مزاولة مهنة الكيميائي.. فليس معقولا أن تكون هذه المهنة الخطرة هي المهنة الوحيدة في مصر التي لا يحتاج من يزاولها إلى تصريح أو رخصة!.
أما عن الاحتفال بالعام العالمي للكيمياء.. فهناك منافسة بين دول العالم لتقديم فعاليات مبتكرة للاحتفال خلال عام 2011؛ لتعريف الناس بأهمية هذا العلم والعمل على تغيير الصورة الخاطئة عن صعوبته وعن تسببه في التلوث والحروب. ولدينا كمصريين وعرب الكثير مما يمكن تقديمه وإثبات وجودنا وتميزنا بين الأمم.. وأمامنا سنة كاملة للاستعداد. ويمكننا أن نضرب عصفورين بحجر واحد.. فنحن في حاجة ملحة لتبسيط علم الكيمياء وتقديمه في صورة جذابة تحبب أولادنا في تعلمه وتقربه إلى الأذهان، وفي حاجة أيضا إلى المنافسة عالميا وإظهار ريادة مصر في العلم الذي أبدعه أجدادنا. ولدينا في مصر الإمكانات الثقافية الكبيرة التي تمكننا من تقديم مبتكرات فنية تبسط علم الكيمياء وتنال إعجاب العالم. مطلوب تشجيع الشعراء والأدباء والرسامين والمطربين والممثلين، والفنانين عموما، لإنتاج أعمال فنية تترجم النظريات والقوانين والمفاهيم العلمية التي تبدو معقدة إلى قوالب فنية مبسطة تصل إلى العقول وترسخ في القلوب مباشرة. وهذا من شأنه أن يعيد الحلقة المفقودة بين الإعلام والتعليم.. فالإمكانات الإعلامية الخرافية الحديثة لم تسهم بعد للأسف في العملية التعليمية، ولو شارك الإعلام بجدية في التعليم بخطة مدروسة فسوف تحدث ثورة تعليمية غير مسبوقة. وعادة ما تستفيد مصر اقتصاديا من إنتاجها الثقافي والفني لأن السوق العربي البكر ينتظر إنتاجنا المبتكر. ومطلوب أن يعيش أولادنا بالمرحلة الثانوية هذا الحدث الكبير بإجراء مسابقات بين المدارس للحصول مثلا على كأس جابر بن حيان في الكيمياء.. ومطلوب أيضا ألا تغيب مصر عن المسابقات الدولية مثل مسابقة الأولمبياد الدولي في الكيمياء التي غبنا عنها العام الماضي بلا داع، ومسابقة الأولمبياد العربي في الكيمياء التي أنشأناها ويجب الاستمرار فيها. إن مصر التي نشأ علم الكيمياء على أرضها كبيرة وعظيمة.. ويجب أن يشعر العالم أنها لازالت كذلك، وأن علم الكيمياء لازال راسخا فيها.
abdallah_helal@hotmail.com
بقلم د/ عبد الله هلال
وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مبادرة الاتحاد الأفريقي للجمعيات الكيميائية (FASC)، والتي تبناها الاتحاد الدولي للكيمياء (IUPAC)، باعتبار عام 2011 العام العالمي للكيمياء. وسوف تنطلق فعاليات الاحتفال بهذا العام من منظمة اليونسكو بباريس يوم 24 يناير 2011. وقد يتعجب البعض من اختيار الهيئات الدولية لعلم الكيمياء بالذات، من بين العلوم كلها، لينال هذا الاهتمام الدولي.. وليحظى بالتعريف والاحتفاء به عالميا على مدار عام كامل. والحقيقة ألا مجال للتعجب؛ فالكيمياء علم أساسي تنبني عليه الكثير من العلوم الأخرى مثل العلوم الطبية والصيدلية والزراعية والهندسية والبيئية.. الخ. وعلم الكيمياء يكاد يكون هو العلم الوحيد الذي يلمسه الإنسان العادي ويشعر به في حياته اليومية، إذ إن كل شيء حولنا ما هو إلا نتاج تفاعلات كيميائية. ويصعب تخيل شكل الحياة على وجه الأرض لو لم يوجد علم الكيمياء: فهل كان يمكن مثلا أن نرى طائرة، سيارة، صاروخ؟.. هل كانت توجد كتب وصحف؟.. هل كنا نسمع عن أجهزة الحاسوب والإذاعة المسموعة والمرئية؟.. هل كان يمكن أن توجد ناطحات سحاب ومركبات فضائية؟. بل هل كان يمكن أن نجد مياها نقية، أو أن نضاعف إنتاج المحاصيل الزراعية، أو أن نرتدي ملابس جميلة بألوان متنوعة، أو أن نجد دواء لأمراضنا؟. إذا نظرنا حولنا فلن نجد شيئا لا يعود في أصله إلى علم الكيمياء.
ما هو علم الكيمياء؟، وإلى أي مدى يسهم في حياتنا وثقافتنا ورفاهيتنا وأنماط معيشتنا؟. إذا أمعنا النظر فيما يدور حولنا نجد مثلا أن الحديد يصدأ، والوقود يحترق، والنبات ينمو.. مجموعة من المواد الكيماوية تتحول بقدرة الخالق إلى مجموعة أخرى من المواد الكيماوية. الكيمياء هي العلم الذي يختص بهذه التحولات.. وهذه التحولات ما هي إلا تفاعلات كيميائية؛ بدونها تتحول الأرض إلى كوكب عديم الفائدة. فالنبات مثلا يأخذ ثاني أكسيد الكربون من الهواء ويحصل على الماء من التربة وعلى الطاقة من ضوء الشمس لينتج لنا مواد غذائية خلال سلسلة عجيبة من التفاعلات الكيميائية تعرف بالتخليق الضوئي. كل العمليات الحيوية التي تدور داخل أجسام الكائنات الحية ما هي إلا تفاعلات كيميائية. كل الأشياء التي نستخدمها، نركبها، نلبسها، نعيش فيها... أنتجت من خلال تفاعلات كيميائية. لذا فمجال عمل الكيميائي هو تصميم التفاعلات الكيميائية التي تحول المواد الموجودة حولنا إلى مواد أخرى تخدم احتياجاتنا. فمثلا؛ الحاسبات والأجهزة الدقيقة تحتاج إلى ترانزستور السِّـلِكون، ولكن السلكون ليس موجودا هكذا بالطبيعة.. الموجود هو السِّلِكا، على هيئة رمال تملأ الصحراء، والكيميائي هو الذي يحول السلكا إلى عنصر السلكون. والمريض يحتاج إلى مادة كيميائية فعاله للعلاج.. وهذه المادة غير موجودة بالطبيعة، فيقوم الكيميائي بتخليقها. الإنسان في حاجة إلى طلاء يمنع به صدأ المعادن أو لدهان حوائط بيته وأثاثه بالألوان التي تضفي عليه البهجة والسعادة.. وفي حاجة إلى مواد لتغليف أسلاك الكهرباء حتى لا تصعق من يلمسها.. وفي حاجة إلى أدوية وأسمدة ومنظفات ومواد بناء وأفلام وأشرطة وبطاريات... كل هذه الأشياء لا تنتج إلا من خلال علم الكيمياء. لقد لعبت الكيمياء دورا حيويا في مضاعفة إنتاج الغذاء لمواجهة الزيادة السكانية العالمية، وللحصول على مصادر جديدة للطاقة، وللإمداد بمواد متجددة لمواجهة تضاؤل ونفاد الخامات الطبيعية، ولكسو وإسكان الإنسان، ولتحسين الصحة ومحاصرة الأمراض، ولحماية البيئة..... الخ.
هذه الصورة المشرقة لعلم الكيمياء لم تمنع بعض وسائل الإعلام وعامة الناس من غير المتخصصين من رسم صورة مشوهة لهذا العلم باعتبار أنه السبب في تلوث البيئة الذي يهدد حياة الإنسان، وفي عنف ولا إنسانية الحروب الحديثة على أساس أن القنابل (التقليدية والنووية) والصواريخ والذخائر العسكرية القذرة كلها منتجات كيميائية. ولا شك أن هذا ظلم كبير لعلم الكيمياء.. فالتلوث سببه الإنسان بجشعه وإسرافه وإهماله، وعلم الكيمياء مثل غيره من العلوم مجرد أداة يمكن استخدامها في الخير أو في الشر.. والحروب وآلياتها وجدت مع وجود الإنسان وقبل ظهور علم الكيمياء. أما الصورة الأخطر التي ألصقت بعلم الكيمياء وتهدد بتقهقره وبالتالي تقهقر الحياة المدنية المتحضرة التي نعيشها؛ فهي ما يشاع دوما ودون حق عن صعوبته.. مما جعل الطلاب يفرون من تعلمه. ومعروف أن الصعوبة والسهولة أمر نسبي يعتمد على مدى حب الإنسان أو كرهه للعلم الذي يدرسه، وهذا بدوره يعتمد على مستوى المعلم وعلى ما يتوفر بالمدارس والجامعات من إمكانات ووسائل لتجسيد النظريات والقوانين وتقريبها إلى أذهان الطلاب، كما يعتمد على لغة التعليم وهل هي اللغة الأم التي يسهل فهمها بالسرعة اللازمة أم لغة أجنبية تشكل عائقا بين الطالب والعلم. ونظرا لأن التعليم المثالي لعلم الكيمياء بالذات- خصوصا الجانب العملي التجريبي- يحتاج إلى إمكانات وميزانيات باهظة، فقد أدى الارتفاع الجنوني لأسعار الأجهزة العلمية والكيماويات مع ضعف التمويل للجامعات، والمساواة غير الرشيدة بين أقسام الكيمياء وغيرها في الميزانية، بالإضافة إلى استخدام اللغة الإنجليزية في التعليم.. أدى إلى تخريج جيل من معلمي الكيمياء دون المستوى، ليقوم هؤلاء دون وعي أو قصد بترسيخ الفكرة المضللة عن صعوبة علم الكيمياء وزيادة كراهية الطلاب له.
بالإضافة إلى ما سبق.. وعلى الرغم من أهمية علم الكيمياء كما أسلفنا، فقد بدأ هذا العلم المركزي يواجه أزمة جديدة قد تؤثر على وجوده وبالتالي على المنافع التي تعود على الحياة الحديثة منه. فقد بدأ العديد من المهتمين بعلم الكيمياء في السنوات الأخيرة يدقون أجراس الخطر.. محذرين من عدم إمكانية استمرار هذا العلم بصورته الحالية. فعلم الكيمياء يقف اليوم على مفترق طرق.. وهو مرشح لأن ينقسم وينشطر إلى عدد من التخصصات التي بانعزالها عن الكيمياء الأم يسهل استقطابها إلى علوم معرفية أخرى، وبالتحديد إلى علمي الأحياء والفيزياء. فقد أدى الاتجاه العلمي المعاصر إلى إنشاء فرعين علميين رئيسين: التقنية الحيوية الذي يهيمن عليه ظاهريا علم الأحياء الجزيئية، وعلم المواد متناهية الصغر nanotechnology، حيث الكلمة العليا فيه لعلمي الفيزياء والهندسة. وهكذا وبعد عدة قرون من تفاخر الكيميائيين بأن علمهم هو العلم المركزي في منظومة العلوم المتشعبة، ومع تزايد النزعة العلمية الجديدة للاتجاه إلى نظام العلوم متعددة المعارف multidisciplinary؛ فقد بدأوا يشعرون بالقلق حول مستقبل الكيمياء كتخصص علمي أساسي فاعل ومترابط. ذلك أن هذه السياسة التعليمية من شأنها أن تنتج أقساما كيميائية جامعية هزيلة ومبتسرة وفقيرة في التجهيزات العلمية- إلا لمجال أبحاث محددة- وتعاني من مناهج علمية سطحية وغير متطورة.. لأن اهتمامات مخططي ومنظري التعليم الكيميائي الجديد سوف تكون منصبة بالدرجة الأولى على خدمة أطراف معرفية خارجية مع إهمال متوقع لبقية مجالات الكيمياء الأساسية والتطبيقية. وبعبارة أخرى فإن أغلب مجالات الكيمياء التي لا ترتبط بمجالات التقنية الحيوية وتقنية المواد متناهية الصغر سوف تعاني من فقر مادي وعلمي وبحثي. أما الجانب الآخر الذي يثير القلق على مستقبل الكيمياء فهو صراع الوجود للأسف.. إذ بدأت تنشأ ظلال من الشك في إمكانية بقاء المؤسسات والمعاهد الكيميائية ذاتها.. فالعديد منها حتى في الدول المتقدمة- ولأسباب مادية بحتة- تواجه مشكلات وصراعات، ليس لتحقيق تطور وتقدم في الأبحاث والإنتاج العلمي، ولكنه صراع لضمان البقاء وعدم الإغلاق حتى ولو كانت مجرد أقسام تعليمية. وغني عن البيان أن تزايد عداد أقسام الكيمياء التي تغلق أبوابها خصوصا في الدول الغربية، التي هي عصب ومركز تقدم العلوم، سوف يؤثر على مستقبل علم الكيمياء وبالتالي مستقبل التقدم البشري.
وعموما فنحن في مصر ليست لدينا هذه النزعة المادية التي ربما تتسبب في إغلاق الكثير من أقسام الكيمياء.. فهل لنا أن نحلم- بمناسبة العام العالمي للكيمياء- بانطلاقة اقتصادية تقود أمتنا إلى مكانها الطبيعي بين الأمم المتقدمة؛ يكون أساسها توظيف علم الكيمياء، والاستفادة من آلاف الكيميائيين الذين سهرت مصر على تعليمهم؟. إن بلادنا غنية بالخامات الطبيعية، وبالسواعد القوية والعقول المبدعة من علماء وخبراء الكيمياء، وغنية أيضا بموقعها وأشقائها الذين ينتظرون منها أن تمدهم باحتياجاتهم، فهي أَوْلى من الغريب البعيد. إن هذا الحلم يجب- ويسهل- أن يتحقق.. ولكي يتم ذلك فلابد من الاهتمام بالكيميائيين، جنود النهضة وسواعد التقدم، بداية بتطوير مناهج تعليم الكيمياء وتوجيه الطلاب إلى التخصصات التي تناسب خطط التنمية المستهدفة، ومرورا بالاهتمام ببيئة العمل وتوفير سبل الوقاية من أخطار الكيماويات، وتوفير الرعاية الصحية اللازمة لأولئك الذين يتعرضون لأذى الكيماويات بما فيها من سام وحارق ومشع ومتفجر ومسبب للسرطان، وانتهاء بحصولهم على حقوقهم المادية. إن مهنة الكيميائي هي أخطر مهنة، ودوره في تقدم الوطن والإنسانية هو أهم دور.. ولقد حان الوقت لصدور قانون مزاولة مهنة الكيميائي.. فليس معقولا أن تكون هذه المهنة الخطرة هي المهنة الوحيدة في مصر التي لا يحتاج من يزاولها إلى تصريح أو رخصة!.
أما عن الاحتفال بالعام العالمي للكيمياء.. فهناك منافسة بين دول العالم لتقديم فعاليات مبتكرة للاحتفال خلال عام 2011؛ لتعريف الناس بأهمية هذا العلم والعمل على تغيير الصورة الخاطئة عن صعوبته وعن تسببه في التلوث والحروب. ولدينا كمصريين وعرب الكثير مما يمكن تقديمه وإثبات وجودنا وتميزنا بين الأمم.. وأمامنا سنة كاملة للاستعداد. ويمكننا أن نضرب عصفورين بحجر واحد.. فنحن في حاجة ملحة لتبسيط علم الكيمياء وتقديمه في صورة جذابة تحبب أولادنا في تعلمه وتقربه إلى الأذهان، وفي حاجة أيضا إلى المنافسة عالميا وإظهار ريادة مصر في العلم الذي أبدعه أجدادنا. ولدينا في مصر الإمكانات الثقافية الكبيرة التي تمكننا من تقديم مبتكرات فنية تبسط علم الكيمياء وتنال إعجاب العالم. مطلوب تشجيع الشعراء والأدباء والرسامين والمطربين والممثلين، والفنانين عموما، لإنتاج أعمال فنية تترجم النظريات والقوانين والمفاهيم العلمية التي تبدو معقدة إلى قوالب فنية مبسطة تصل إلى العقول وترسخ في القلوب مباشرة. وهذا من شأنه أن يعيد الحلقة المفقودة بين الإعلام والتعليم.. فالإمكانات الإعلامية الخرافية الحديثة لم تسهم بعد للأسف في العملية التعليمية، ولو شارك الإعلام بجدية في التعليم بخطة مدروسة فسوف تحدث ثورة تعليمية غير مسبوقة. وعادة ما تستفيد مصر اقتصاديا من إنتاجها الثقافي والفني لأن السوق العربي البكر ينتظر إنتاجنا المبتكر. ومطلوب أن يعيش أولادنا بالمرحلة الثانوية هذا الحدث الكبير بإجراء مسابقات بين المدارس للحصول مثلا على كأس جابر بن حيان في الكيمياء.. ومطلوب أيضا ألا تغيب مصر عن المسابقات الدولية مثل مسابقة الأولمبياد الدولي في الكيمياء التي غبنا عنها العام الماضي بلا داع، ومسابقة الأولمبياد العربي في الكيمياء التي أنشأناها ويجب الاستمرار فيها. إن مصر التي نشأ علم الكيمياء على أرضها كبيرة وعظيمة.. ويجب أن يشعر العالم أنها لازالت كذلك، وأن علم الكيمياء لازال راسخا فيها.
هناك تعليق واحد:
مقالات رصينة ومميزة، تحية لك يا دكتور عبد الله، ونرجوا تنزيل كل مقالاتك على الموقع
إرسال تعليق